وهناك مخرجٌ مهم يمكن أن يلجأ إليه الإنسان ألا وهو التورية: إذا احتاج إلى الكذب استخدم التورية، فما هي التورية؟ بعد أن عرفنا أن الكذب حرام ومرت معنا قصة إبراهيم الخليل، وأن الأنبياء لا يحوز الكذب في حقهم مطلقاً في قضية تبليغ الشريعة والوحي، وأنهم معصومون من الكذب في تبليغ الشريعة قطعاً، والكذب في غير ذلك من الصغائر، المسألة فيها قولان مشهوران للسلف والخلف: - أما منصب النبوة فلا يمكن أن يكذبوا فيه مطلقاً، والله سبحانه وتعالى يبعث الصادق، حتى في الجاهلية كان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق.
ينبغي على الإنسان إذا احتاج للوقوع ليخبر عن شيء بخلاف الحقيقة أن لا يكذب وإنما يستخدم التورية فما هي التورية؟ التورية: أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض.
والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم:(إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب).
وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس أو إسقاط حقوق الخلق أبداً.
لنأخذ شيئاً من معاريض النبوة حتى يتبين لنا ما هي المعاريض: النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شخصيته، فقالوا:(من أنتم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء) ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان؟ وقال أيضاً:(لا يدخل الجنة عجوز!) ما المعنى القريب الذي فهمته المرأة وبكت؟ أن العجائز لا يدخلن الجنة.
لكن المعنى الآخر: أن الله عز وجل لا يُدخل العجوز على هيئة عجوز، وإنما يغير هيئتها وتعود شابة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً}[الواقعة:٣٥ - ٣٦] وليس المعنى أن العجوز التي في الدنيا عجوز لا تدخل الجنة، وإنما المقصود أنها عند دخولها الجنة لا تكون عجوزاً؛ بل تنقلب إلى بكرٍ شابة في سن الثالثة والثلاثين.
لما قال للمرأة:(زوجك الذي في عينه بياض) والبياض يفهمون أنه العمى، لكن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.
فالمعرِّض يقصد معنىً بعيداً، اللفظ يحتمله، ولو أن اللفظ لا يحتمله يكون كذباً، والسامع يفهم المعنى القريب لهذا اللفظ.
ولا يجوز استعمال التورية مطلقاً في إسقاط حق.
مثال: يقول القاضي لرجل: أنت أخذت مال فلان؟ فيقول: لم آخذ ماله، وهو يقصد مال رجل آخر، فهذا لا يمكن؛ لأن معنى ذلك: أن يسقط حقاً، وهذا حرام ولا يجوز.