قالوا له بعد ذلك لما قال:{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}[البقرة:٦٧ - ٦٨] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤].
وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:٢٨٥] لما نزل قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}[البقرة:٢٨٤] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:٢٨٥] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.
لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}[البقرة:٦٨] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله:(إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده:{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}[البقرة:٦٨] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها:{لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}[البقرة:٦٨] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.
ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.
قال لهم نبيهم:{فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}[البقرة:٦٨] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟