والجواب: أن توزيع هذين الضربين على الحديث والقرآن توزيع لا يتفق والواقع في شيء؛ فقد كان أكثر الوحي القرآني يجيء إلى النبي ﷺ في شأن لم يسبق عهد به ولم يتقدم منه تفكير فيه، بل كان يفاجئه من فوره على غير توقع وانتظار؛ جوابًا لسؤال سائل، أو فتيا في حادثة نزلت، أو قصصًا عن أمة مضت، أو ما إلى ذلك، وقليلًا ما كان يجيئه بعد تشوف وتلبث تمكن فيه الروية، كما في مسألة الإفك ومسألة تحويل القبلة، وقد رأينا أسلوبه في كلتا الحالين، فإذا نسقُه هو نسقُه ونظامُه هو نظامُه، وكذلك نقول: إن كلامه النبوي كانت تختلف عليه هذه الظروف ويتحد فيها أسلوبه، فقد كان يتكلم أحيانًا بعد تفكير طويل وروية وتشاور مع أصحابه كما رأينا من حديثه في مسألة الإفك، وكما نرى من حديثه بعد التشاور في شئون الحرب والصلح ونحوها، وأحيانًا بعد تلبث بسير؛ انتظارًا للوحي كما في قصة الرجل الذي جاء في الجعرانة سنة ثمان فسأل عن العمرة وهو متضمخ بالطب وعليه جبة، فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، حتى جاءه الوحي، فلما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة"؟ فجيء به، فقال ﷺ: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان. وأخرى كان يتكلم على البديهة فيما لا يشكل عليه أمره مما سبقت به قضية العقل أو الدين، وهو في كل ذلك يجري كما ترى على نمط واحد لا تستطيع أن تميز في أسلوبه بين ما كان معناه مدبرًا بالرأي وما كان معناه معلمًا بالوحي. ولا بين ما يرسله إرسالًا في حديثه مع أهله وأصحابه وما يحتفل به احتفالًا في الجموع المحشودة والأيام المشهودة. فتبين بطلان ما اعتمده السائل من تفرقة بين القرآن والحديث على هذا النحو. بل إننا لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا جدلًا صحة هذا التقسيم لما صلح أساسًا يقوم عليه بنيان=