النبوي، فنراه ضربًا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودًا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربًا واحدًا لا تعلو عن سطح الأرض، فمنها ما يحبو حبوًا، ومنها ما يشتد عدوًا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه "السيارات" الأرضية إلى تلك "السيارات" السماوية!
نعم، لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوي فتطمع في اقتناصها ومجاراتها كما تطمع في اقتناص الطائر أو مجاراته؛ ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها: أمن كلمات النبوة هي أم من كلمات الصحابة أو التابعين؟ ذلك على ما عملت من امتياز الأسلوب النبوي بمزيد الفصاحة ونقاء الديباجة وإحكام السرد. ولكنه امتياز قد يدق على غير المنتهين في هذا الفن. وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه، فيلجأ إلى النقل
=الشبهة؛ لأن انقسام الكلام إلى المرسل على البديهة والمزور بالروية ما كان ليتفاوت به منهج الكلام -عند العرب الخلص- هذا التفاوت البعيد الذي يظن فيه أنه قول قائلين. وإنما ظهر هذا التفاوت منذ انقرض أهل السليقة العربية ونبتت نابتة المولدين الذين أخذوا هذه اللغة من غير أمهاتهم، فكانت لغتهم التي بها يتكلمون غير اللغة التي بها يكتبون، وهكذا أمكن أن يكون لكل منهم أسلوبان متباينان، ينزل بأحدهما إلى العامية الطبيعية ويصعد بالآخر إلى العربية المكسوبة، أما العربي القح فإن في عامة أمره ما كان يزيده التفكير والتقدير والروية إلا استيعابًا لأطراف الحديث واستكمالًا لمقاصده، ولم يكن ذلك ليخرجه عن أسلوبه وطريقته ولغته الخاصة التي يألفها طبعه وتفيض بها سجيته وهي اللغة التي يحتذيها أهل الفن منا بعد محاولة ومعالجة. ولئن كان فيهم قليل ممن يريد القول على غير سجيته ويتعمل له ما ليس من عادته في كلامه، لقد كان هذا التكلف غير مخرج له عن حدود مذهبه جملة. بل كان يترك في غضون حديثه ما يتم عن روحه ومشربه. على أن الكلام بعد تلك المعاناة لم يكن ليزداد فصاحة وحسنًا. بل كان ينزل في هذا الباب بقدر ما يحسب الحاسب أنه يصعد فيه. ومن هنا كانت العرب تتمادح بالأمر يجيء طبعًا لا تكلفًا. ولم يكن النبي ﷺ في شيء ما من المتكلفين، بل كان أشد الناس كراهية للتكلف في الكلام وغيره. وكان يقول: "هلك المتنطعون" رواه مسلم وأبو داود. والتنطع في الكلام التعمق فيه والتفاصح. وانظر ذمه الرجل الهذلي حين خاصم في دية الجنين فقال: يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك بطل، أي يهدر دمه. فقال رسول الله ﷺ: "إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع". رواه الشيخان وغيرهما. وفي رواية: "أسجع كسجع الأعراب"؟ وفي أخرى: أسجع الجاهلية وكهانتها؟ فذم هذا النوع من السجع وهو ما كان كسجع الكهان مصنوعًا غير مطبوع وكان المعنى فيه تابعًا للفظ وليس اللفظ تابعًا للمعنى.