للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل: "فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟ "؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مصلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهور (١)، فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا: "وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى".

ولو زاد مثلًا: "وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم" لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبل الكلام وفترت قوته.

فكان اختصار الكلام على ما ترى -بوقفهم بادئ ي بدء في موقف الاتهام- إسراعًا بتسديد (٢) سهم الحجة إلى هدفها، وتنبيهًا في الوقت نفسه عل أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضا عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم.

٣ - وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحًا بإخراج الجريمة الأولى وهي جريمة القتل في صيغة الفعل المضارع تصويرًا لها بصورة الأمر الواقع الآن، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية.

٤ - ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح بابًا من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وبابًا من الإطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله. فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس. ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به


(١) التي تزعم أن ذئبًا عدا على حمل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى. وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استنادًا لأوهن الأسباب.
(٢) وهذا هو ما يسمى المناظرة "بالتقريب" بين الدليل والمطلوب.

<<  <   >  >>