للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المكية كسورة الأنعام (١)، والأعراف، ويونس، والنحل، وغيرها.

ومما زاد موقعه هنا حسنًا أن مجيئه في سياق ذكر التوحيد وقع عدلًا لمجيء حكم القبلة في سياق ذكر ملة إبراهيم، فكلاهما فرع عظيم يتصل بأصل عظيم. ألا ترى كيف ختم الكلام في شأنه بمثل ما ختم به هناك من وعد المعاندين ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾؟ أو لا ترى كيف أن الإسلام جعل مسألتي القبلة والذبائح كليهما من الشعائر التي يتميز بها المسلم من غيره. كما يتميز بالشهادة والصلاة: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله" (٢).

على أن بدعة التحريم بالرأي في هذا الباب لم تقتصر على الفئة الخارجة عن الملة، بل إن بعض المسلمين في عصر النبوة كادت تصيبهم عدوى الأمم قبلهم، إذ هموا أن يترهبوا، ويحرموا على أنفسهم الطيبات من الطعام وغيره، لا تحريمًا لما أحل الله منها، بل زهادة فيها وحملًا للنفس على الصبر عنها بضرب من النذر أو اليمن أو العزيمة المصممة. فرد عليهم القرآن هذا الابتداع وأغلق بابه إغلاقًا، حتى لا يكون مدرجة لما وراءه. ونبههم أن من قضية توحيدهم لله أن ينزلوا على حكمه فيما أحل لهم؛ قيامًا فيه بشريعة الشكر، كما نزلوا على حكمه فيما حرم عليهم قيامًا فيه بشريعة الصبر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.


(١) قرأ في سورة الأنعام سبعًا وعشرين آية أولها قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾ الآيات [١٣٦ - ١٥٣]، وفي سورة الأعراف قوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ [الآيتين: ٣١، ٣٢]، وقوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ [الآية: ١٦٩] وفي سورة يونس قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ [الآيتين ٥٩، ٦٠] وفي سورة النحل قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [الآية: ٩٥]، وقوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [الآيتين: ١١٥، ١١٦].
(٢) رواه البخاري عن أنس بن مالك ك/ الصلاة، ب/ فضل استقبال القبلة يستقبل بأطراف رجليه "٣٧٨". ورواه مسلم عن البراء ك/ الأضاحي، ب/ وقتها "٣٦٢٦ ".

<<  <   >  >>