فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ وأبْيَنه؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَاتَلَ بَنِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِمْ آمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الكذَّاب، واعتقدوا نبوّته. وأما مانعوا الزَّكَاةِ فَكَانُوا قَوْمًا آخَرِينَ غَيْرَ بَنِي حَنِيفَةَ. وَهَؤُلَاءِ كَانَ قَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ شُبْهَةٌ فِي جَوَازِ قِتَالِهِمْ. وَأَمَّا بَنُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يتوقف أحد في وجوب قتالهم. وأما مانعوا الزَّكَاةِ فَإِنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أُمرت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)) . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَمْ يَقُلْ: ((إِلَّا بِحَقِّهَا)) فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا. وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقا أَوْ عُقالا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلهم عليه)) (١) .
وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤَدُّوهَا إِلَى الصِّدِّيقِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَعْطَوْهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِمُسْتَحِقِّيهَا وَلَمْ يُؤَدُّوهَا إِلَيْهِ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالُوا: إِذَا قَالُوا: نَحْنُ نُؤَدِّيهَا بِأَنْفُسِنَا وَلَا نَدْفَعُهَا إِلَى الْإِمَامِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قِتَالُهُمْ. فَإِنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُقَاتِلْ أَحَدًا عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَا أَلْزَمَ أَحَدًا بِمُبَايَعَتِهِ. وَلِهَذَا لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ سَعْدٌ لَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَوْلُ الْقَائِلِ: ((سَمَّوْا بَنِي حَنِيفَةَ أَهْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا الزَّكَاةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا إِمَامَتَهُ)) مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((إِنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ قتال بني حنيفة)) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((وَلَمْ يُسَمُّوا مَنِ اسْتَحَلَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَمُحَارَبَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْتَدًّا، مَعَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَا عَلِيُّ حَرْبُكَ حَرْبِي وَسِلْمُكَ سِلْمِي وَمُحَارِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ)) .
فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ: أَوَّلًا: دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوا هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنْهُ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ، فَمَنِ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ عُلَمَاءِ الحديث الْمَعْرُوفَةِ، وَلَا رُوي بِإِسْنَادِ مَعْرُوفٍ. وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَمِعُوهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ كلٌّ مِنْهُمْ كُلَّ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُعلم أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ، ولا روي بإسناد
معروف؟
(١) البخاري ج ٩ ص٩٣ ومسلم ج١ ص٥١.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute