وأما بَعْدَ الثَّلَاثَةِ كالعسكريَيْن، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ عِلْمٌ تَسْتَفِيدُهُ الْأُمَّةُ، وَلَا كَانَ لَهُمْ يَدٌ تستعين بها الْأُمَّةُ، بَلْ كَانُوا كَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ لَهُمْ حُرْمَةٌ وَمَكَانَةٌ، وَفِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ مَا فِي أَمْثَالِهِمْ، وَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، كَمَا أَخَذُوا عَنْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ. وَلَوْ وَجَدُوا مَا يُستفاد لَأَخَذُوا، وَلَكِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَعْرِفُ مَقْصُودَهُ.
وَإِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ نَسَبٌ شَرِيفٌ، كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُهُ عَلَى قَبُولِ النَّاسِ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ عَرَفت الْأُمَّةُ لَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَفَادَتْ مِنْهُ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ مَا يُستفاد مِنْهُ، عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ لَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَفَادُوا ذَلِكَ مِنْهُ، وَظَهَرَ ذِكْرُهُ بِالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ.
وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِنْسَانُ مَقْصُودَهُ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ عَنْ أَحَدٍ: إِنَّهُ طَبِيبٌ أَوْ نَحْوِيٌّ، وعُظِّم حَتَّى جَاءَ إِلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ أَوِ النُّحَاةُ، فَوَجَدُوهُ لَا يَعْرِفُ مِنَ الطِّبِّ وَالنَّحْوِ مَا يَطْلُبُونَ، أَعْرَضُوا عَنْهُ، ولم ينفعه دَعْوَى الْجُهَّالِ وَتَعْظِيمِهِمْ؟
وَهَؤُلَاءِ الْإِمَامِيَّةُ أَخَذُوا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ وَاللُّطْفُ، بِمَا يَكُونُ المكلَّف عِنْدَهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْفَسَادِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ فِي الْحَالَيْنِ.
ثُمَّ قَالُوا: وَالْإِمَامَةُ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ أَوْجَبُ عِنْدَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ بِهَا لُطْفًا فِي التَّكَالِيفِ. قَالُوا: إِنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا بِالْعَادَاتِ وَاسْتِمْرَارِ الْأَوْقَاتِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَتَى كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ كَانُوا بِوُجُودِهِ أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْفَسَادِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَئِيسٌ وَقَعَ الْهَرْجُ وَالْمَرْجُ بَيْنَهُمْ، وَكَانُوا عَنِ الصَّلَاحِ أَبْعَدَ، وَمِنَ الْفَسَادِ أَقْرَبَ. وَهَذِهِ الْحَالُ مُشْعِرَةٌ بِقَضِيَّةِ الْعَقْلِ مَعْلُومَةٌ لا ينكرها إلا من جهل الْعَادَاتِ، وَلَمْ يَعْلَمِ اسْتِمْرَارَ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الْعَقْلِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا لُطْفًا فِي التَّكْلِيفِ لَزِمَ وُجُوبُهُ. ثُمَّ ذَكَرُوا صِفَاتِهِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَغَيْرِهَا.
ثُمَّ أَوْرَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ سُؤَالًا، فَقَالُوا: إِذَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْإِمَامَ لُطْفٌ، وَهُوَ غَائِبٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute