وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمُطَالَبَةُ بِتَصْحِيحِ النَّقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((رَوَاهُ الْجُمْهُورُ فَإِنَّ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رووه لم يرووه هكذا، بل الذي فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ غَائِبًا عَنْ خَيْبَرَ، لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِيهَا، تخلَّف عَنِ الْغُزَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَرْمَدَ. ثُمَّ إِنَّهُ شقَّ عَلَيْهِ التَّخَلُّفُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَحِقَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ قُدُومِهِ: ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ)) (١) . وَلَمْ تَكُنِ الرَّايَةُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ، وَلَا قَرِبَهَا واحدٌ مِنْهُمَا، بَلْ هَذَا مِنَ الْأَكَاذِيبِ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: ((فَمَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، وَبَاتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ دعا عليًّا، فقيل له: إنه أرمد، فجاء فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى بَرَأَ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ)) .
وَكَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ جَزَاءَ مَجِيءِ عَلِيٍّ مَعَ الرَّمَدِ، وَكَانَ إِخْبَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ وَعَلِيٌّ لَيْسَ بِحَاضِرٍ لَا يَرْجُونَهُ مِنْ كَرَامَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَنْقِيصٌ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَصْلًا.
الثاني: أن إخباره أن عليّا كان يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقٌّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّوَاصِبِ. لَكِنَّ الرَّافِضَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ ارتدُّوا بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يمكنهم الاستدلال بهذا، لأن الْخَوَارِجُ تَقُولُ لَهُمْ: هُوَ مِمَّنِ ارْتَدَّ أَيْضًا، كَمَا قَالُوا لمَّا حَكَّمَ الْحَكَمَيْنِ: إِنَّكَ قَدِ ارتددت عن الإسلام فعد إليه.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: ((إِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَنْ غَيْرِهِ)) .
فِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ سلَّم ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ)) ، فَهَذَا الْمَجْمُوعُ اخْتَصَّ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ كَانَ عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْفَتْحُ الْمُعَيَّنُ عَلَى يَدَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْإِمَامَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُقال: لَا نسلِّم أَنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. كَمَا لَوْ قِيلَ: لَأُعْطِيَنَّ هَذَا الْمَالَ رَجُلًا فَقِيرًا، أَوْ رَجُلًا صَالِحًا، أو لأعودن الْيَوْمَ رَجُلًا مَرِيضًا صَالِحًا، أَوْ لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الراية رجلا شجاعا، ونحو ذلك - لم يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يُوجِبُ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِي وَاحِدٍ، بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ موصوف بذلك.
(١) انظر البخاري ج٥ ص ١٨ ومسلم ج٤ ص ١٨٧١- ١٨٧٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute