ثمَّ قَالَ الْأَولونَ فَإِذا لم يكن تَارِكًا للْمَأْمُور بِهِ فَلَا يكون لله فِي الْمَسْأَلَة حكم معِين أَو لَا يكون الحكم الْمَنْصُوص حكما فِي حَقه إِذا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته
وَقَالَ الْآخرُونَ بل إِذا كَانَ مخطئا يكون تَارِكًا للْمَأْمُور بِهِ فَيكون آثِما
وَالتَّحْقِيق أَنه مَأْمُور بِهِ أمرا مُطلقًا لَكِن شَرط الْإِثْم بِمَنْزِلَة التَّمَكُّن من مَعْرفَته فَإِذا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته لَا يكون شَرط الْإِثْم مَوْجُودا فِيهِ وَلَكِن ذَلِك لَا ينفى أَن يكون هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُحِبهُ الله ويرضاه ويثيب فَاعله إِذا فعله وَإِنَّمَا سقط عَن بعض الْعباد لفَوَات الشَّرْط فِي حَقه خَاصَّة وَحِينَئِذٍ فَيكون النزاع فِي بعض الْمَوَاضِع نزاعا لفظيا
وَلِهَذَا اخْتلف الْعلمَاء هَل هُوَ مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَإِن كَانَ مخطئا فِي نفس الْأَمر أَو هُوَ مخطىء فِي اجْتِهَاده وَفِي نفس الْأَمر على قَوْلَيْنِ ذكرهمَا القَاضِي رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَذَلِكَ أَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد قد يَعْنِي بِهِ الْقُصُور وَالتَّقْصِير وَقد لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا التَّقْصِير إِذْ الْعَاجِز عَن معرفَة الحكم الَّذِي لله عَاجز قَاصِر لَيْسَ بمقصر وَلَا مفرط فِيمَا بعد عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ أَخطَأ فِي اجْتِهَاده أَرَادَ أَخطَأ فِي استدلاله بِمَعْنى أَنه لم يسْتَدلّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يوصله إِلَى نفس الْحق وَلَا ريب أَنه أَخطَأ هَذَا الإستدلال الْموصل لَهُ إِلَى الْحق إِذْ لَو أَصَابَهُ لأصاب الْحق لكنه لم يكن قَادِرًا على هَذَا الإستدلال فَلَا يُعَاقب على تَركه
وَمن قَالَ لم يخطىء فِي اجْتِهَاده أَرَادَ أَنه لم يخطىء فِيمَا قدر عَلَيْهِ من الِاجْتِهَاد بل فعله على وَجهه لَكِن لم يكن مقدوره من الِاجْتِهَاد كَافِيا فِي إِدْرَاك الْمَطْلُوب فِي نفس الْأَمر