(إن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة؛ لأنهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف، وهو منقول بالتواتر محفوظ في الصدور، ولو عُدمت المصاحف لم يكن للمسلمين بها حاجة، فإن المسلمين ليسوا كأهل الكتاب الذين يعتمدون على الكتب التي تقبل التغير، والله أنزل القرآن على محمد فتلقاه تلقياً وحفظه في قلبه، لم ينزله مكتوباً كالتوراة، وأنزله منجماً مفرقاً ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب ... فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أُقْرِأه؛ فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونها، وأيضاً كانوا عرباً لا يلحنون؛ فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل: يعلمون وتعلمون؛ فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى.
ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعملون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء أمامه، ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك: ((شد)) ، ويعملون المدة بقولك ((مد)) ، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين؛ لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، وكما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا، فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل ((أنا)) وعلى شكل ((ثنا)) ) (١) .