(وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه، فيخرج فيرى الناس يتحدثون به؛ فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس، والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان، لكن أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد بعده وسُخِّرت له الإنس والجن، وهذا لم يحصل لغيره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما تفلَّت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته؛ قال: ((فأخذته، فذعته حتى سال لعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته)) (١) ؛ فلم يستخدم الجن أصلاً، لكن دعاهم إلى الإيمان بالله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنس.
والذي أوتيه - صلى الله عليه وسلم - أعظم مما أوتيه سليمان؛ فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته، واختار أن يكون عبداً رسولاُ على أن يكون نبياً ملكاً؛ فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد؛ فهو أفضل، كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين.
وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء، وكثير من أهل الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين
(١) رواه بنحوه البخاري في (الصلاة، باب الأسير والغريم يربط في المسجد، ٤٦١، وفي أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاودَ سُلَيْمانَ نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} ، ٣٤٢٣، وفي تفسير القرآن، باب قوله: {وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعْدِي} ، ٤٨٠٨) ، ومسلم في (المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، ٥٤١) ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.