للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلتُ: العُلُوُّ يُبْعِدُ الإسْنادَ مِنَ الخللِ؛ لأنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ رِجالِهِ يحتملُ أنْ يَقَعَ الخللُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْواً أوْ عَمْداً، ففي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهاتِ الخللِ، وفي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهاتُ الخللِ، وهذا جَلِيٌّ واضِحٌ.

ثُمَّ إنَّ عُلُوَّ المطلوبِ في رِوايةِ الحديثِ عَلَى أقْسامٍ خَمْسَةٍ (١):

أوَّلُها: القُرْبُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِسْنادٍ نظيفٍ غيرِ ضعيفٍ، وذَلِكَ مِنْ أجَلِّ أنواعِ العُلُوِّ. وقَدْ رُوَّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أسْلَمَ الطُّوسِيِّ الزَّاهِدِ (٢) العَالِمِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ:

((قُرْبُ الإسْنادِ قُرْبٌ أو قُرْبَةٌ إلى اللهِ عَزَّوَجَلَّ)) (٣). وهذا كما قالَ؛ لأنَّ قُرْبَ الإسْنادِ قُرْبٌ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والقُرْبُ إليهِ قُرْبٌ إلى (٤) اللهِ عَزَّوَجَلَّ.

الثَّاني: - وهوَ الذي ذَكَرَهُ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ (٥) -: القُرْبُ مِنْ إمامٍ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ وإنْ كَثُرَ العددُ مِنْ ذَلِكَ الإمامِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فإذا وُجِدَ ذَلِكَ في إسْنادٍ، وُصِفَ بالعُلُوِّ نَظَراً إلى قُرْبِهِ مِنْ ذَلِكَ الإمامِ وإنْ لَمْ يَكُنْ عالياً بالنسْبَةِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وكلامُ الحاكِمِ يُوهِمُ أنَّ القُرْبَ مِنْ رَسُولِ اللهِ لا يُعَدُّ مِنَ العُلُوِّ المطلوبِ أصْلاً؛ وهذا غَلَطٌ مِنْ قائِلِهِ؛ لأنَّ القُرْبَ منهُ - صلى الله عليه وسلم - بإسْنادٍ نَظِيْفٍ غيرِ ضَعِيْفٍ أوْلَى بذلكَ. ولا يُنازِع في هذا مَنْ لهُ مُسْكَةٌ (٦) مِنْ مَعرفةٍ، وكأنَّ الحاكِمَ أرادَ بكلامِهِ ذَلِكَ إثباتَ


(١) كما قسمه أبو الفضل مُحمد بن طاهر في جزء له اسمه: " العلو والنزول " ص ٥٧، وتبعه في ذَلِكَ المصنف كما أشار إلى ذَلِكَ الحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة ٢/ ٣٦٢.
(٢) هو الإمام أبو الحسن مُحمد بن أسلم بن سالم بن يزيد الكندي الطوسي الزاهد، صاحب المسند والأربعين، توفي سنة ٢٤٢ هـ‍، حلية الأولياء ٩/ ٢٣٨، وشذرات الذهب ٢/ ١٠٠، والرسالة المستطرفة: ٦٤.
(٣) أخرجه الخطيب في الجامع (١١٥).
(٤) في (م) والشذا: ((من)).
(٥) معرفة علوم الحديث: ١١.
(٦) يُقال: رجلٌ ذو مُسْكَةٍ ومُسْكٍ، أي: رأي وعقل يُرجَعُ إليهِ، وفُلانٌ لا مُسْكَةَ لهُ، أي: لا عَقْل له، ويقال: ما بفلانٍ مُسْكَة، أي: ما به قوة ولا عقل، ويُقَال: فيهِ مُسْكَةٌ مِنْ خَيْرٍ، أي: بقيَّة، وليسَ لأمرِهِ مُسْكَةٌ، أي: أثر أو أصل يُعَوَّلُ عليهِ. انظر: اللسان ١٠/ ٤٨٨، والمعجم الوسيط ٢/ ٨٧٠.

<<  <   >  >>