للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لا أبغي الرحلة عن تلك المدينة، أو أشهد بها يوم الزينة، ولكن ليس للإنسان ما تمنّى، وربما سعى المرء إلى ما لم ينل وتعنّى:

ما كلّ ما يتمنى المرءُ يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

فبرزت من تلك الروضة، وفارقت محاسن هاتيك الغَيْضة، ولي طبيعة تسمو إلى زمن الربيع، وتتشوّف إلى نُشُوِّ النبات المريع، أجِدُ من النفس نشاطاً في أيامه، ويهيجني نشر رَنده وخزامه، وكان يقال من لم تطربه نغمات الأوتار؛ ولم يتحرك لتغريد الأطيار؛ ولم يَعْجَب لبديع الأزهار؛ ولم يهتز لنسمات الأسحار؛ هو فاسد المزاج محتاج إلى العلاج. ولله در القائل:

ما مثل مصر في زمان ربيعها ... ما بين ماء واعتلال نسيمِ

أقسمت لا تحوي البلادُ نظيرها ... لمّا نظرت إلى جمال وسيمِ

وقال:

استنشقوا الهوى الربيع فإنه ... نعم الصديق وعنده ألطافُ

يغذي الجسوم نسيمه فكأنَّه ... روح حواها جوهر شفّافُ

فكان البروز من مصر المحروسة إلى بحر بولاق؛ ذات البها والإشراق؛ في يوم الجمعة المبارك، بعون الله تعالى وتبارك، في تاسع ربيع الأول:

وخلّفت مصر من ورائي وخاطري ... بمصر ولكن أين من ناصري مصرُ

بلاد بها ما يشتهي متيسّرٌ ... على جيدها يا حبذا اللف والنشرُ

فأكملت ذلك النهار مع الأخلاء الأخيار؛ من أهل الحرمين الشريفين ممن نقلتهم يد الأقدار إلى هاتيك الديار، ونحن نتشاكى البعاد ونجدّد عهود الوداد، إلى أن آذنت الشمس للغروب وأشرقت كواكب الكروب، فوقفت لهم موقف من ضل الرشاد، وتقرحت لفراقهم الأكباد، واستودعهم الله تعالى؛ والمدامع تترادف وتتوالى، وقد عزمت على الذهاب، وأخذت في الإياب.

ذهبت وقد سدّ الغرام مذاهبي ... وقلبي إلى نحو الأحبة يُجبَذُ

ذُُهِلْتُ فما أدري إلى أين قادني ... قضاء على الإنسان يجري ويَنْفُذُ

<<  <   >  >>