ثم نادى منادي التدبير من عالم التقدير، بأن الخير في الواقع، والأمن في قطع المطالع، وقال لسان الحرمان: عليك الأمان إذا حصل ما قاتك، فلا تندم على ما فاتك.
إذا رُمتَ المطالبَ قبل وقت ... فلست بواجد إلا الأماني
فقبل الوقت كان سؤال موسى ... وكان جوابُ ذلك لن تراني
فعند ذلك أشتد الهيام، وتضاعف الوجد والغرام، شوقاً لساكن الزوراء وزيارته السنية، وتوقاً إلى التملّي بتجلّي جماله، قبل تحكّم المنية.
وما اشتياقي حمى الزوراء من عجب ... وجرحُ قلبي إليها غيرُ مندملِ
وقد حوى سفحها بدراً منازلُهُ ... صميمُ قلبي في حِلّي ومرتحلي
سقى بها مربعاً تزهو جوانبهُ ... بوابلِ غيثٍ بذاك الحَيِّ مُنهملِ
وعطَّرَ الجوّ أنفاس الشَذى وقضت ... يدُ النسيم على الأغصانِ بالميلِ
ويا رعى اللهُ أوقاتاً بها سلفت ... ما ضرّها لو مشت فينا على مهَلِ
سُقيا لها من ليالٍ مذ مضت تركت ... أحشاءنا ولهيب النارِ في شُعَلِ
أشتاقها بفؤاد غير مصطبرٍ ... عنها وأبكي بدمعٍ هاملٍ هَطِلِ
لعل إلمامة بالجزع ثانيةً ... يَدِبُّ منها نسيم البرء في علَلِ
ولما جعلتني المقادير نُهْزَة الأسفار، ولم تُرِني نزهة الأسفار، بل كنت غرضاً لمتاعب البحار، وعرضاً لمصائب القفار، وقد تزايد ما بي من الألم، ولم يبق مني عضو إلا وبه ألم، توسلت في تلك الحال، إلى العليّ المتعال، أن يردّني إلى حَرَمه بمنّه وكرمه، وكثيراً ما كنت أتوسل بهذه الأبيات:
إلهي طال بعدي واغترابي ... وفي جُنح الدجى طال التهابي
ونحو أحبتي قد زاد شوقي ... لأهلي والأقاربِ والصحابِ