وعليّ أن أقضي صلاتي بعدما ... فاتت إذا لم أقضها في وقتها
على أنني بعد ابن أبي الحديد كمن جاء بعد اجتحاف سيل، وأصبح بعد قاطف النهار حاطب ليل. فإن هذا الرجل له تصانيف تدل على تمكنه واطلاعه، وسداد مراميه عند مد باعه، وريه من الفنون وقيامه بها واضطلاعه. منها تعليقان على المحصل والمحصول للإمام فخر الدين وتعليقة ثالثة على الأربعين لفخر الدين، ونظم فصيح ثعلب نظما جيدا في يوم وليلة، وهذا الفلك الدائر علقه في ثلاثة عشر يوما مع أشغال ديوانه.
وكتب إليه أخوه موفق الدين ابن أبي الحديد لما وضع الفلك الدائر:
المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا
لكنّ هذا فلكٌ دائرٌ ... أصبحت فيه المثل السائرا
ووضع على نهج البلاغة شرحا في ستة عشر مجلدا، وناهيك بمن يتصدى لنهج البلاغة ويشرحه، ويأتي على ما يتعلق به من كل علم: أصولا وفقها وعربية وتاريخا وأسماء رجال وغير ذلك. ومن وقف على هذا الشرح، علم أنه قل من يدخل معه ذلك الصرح، أو يسام معه في مثل هذا السرح، وحسبك بمن وأخذ الإمام فخر الدين وأورد عليه. ووجدت له أبياتا أولها:
وحقك لو أدخلتني النار قلت لل ... لذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في دقيق علومه ... وما بغيتي إلاّ رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله ... وأوبقه دون البرية ذنبه
أما يقتضي شرع التكرم عفوه ... أيحسن أن ينسى هواه وحبه
أما ردّ زيغ ابن الخطيب وشكه ... وتمويهه في الدّين إذ جلّ خطبه
أما كان ينوي الحق فيما يقوله ... ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
فقلت أنا رادا عليه في وزنه ورويه:
علمنا بهذا القول أنك آخذ ... بقول اعتزالٍ جل في الدين خطبه
فتزعم أن الله في الحشر ما يرى ... وذاك اعتقاد سوف يرديك غبّه
وتنفي صفات الله وهي قديمةٌ ... وقد أثبتتها عن إلهك كتبه
وتعتقد القرآن خلقا ومحدثا ... وذلك داء عزّ في الناس طبه
وتثبت للعبد الضعيف مشيئةً ... يكون بها ما لم يقدره ربه
وأشياء من هذي الفضائح جمةً ... فأيكما داعي الضلال وحزبه؟
ومن ذا الذي أضحى قريبا من الهدى ... وحامى عن الدين الحنيفي ذبّه
وما ضر فخر الدين قولٌ نظمته ... وفيه شناع مفرط إذ تسبه
وقد كان ذا نورٍ يقود إلى الهدى ... إذا طلعت في حندس الشك شهبه
ولو كنت تعطي حق نفسك قدره ... لأخمدت جمرا بالمحال تشبّه
وما أنت من أقرانه يوم معرك ... ولا لك يوما بالامام تشبّه
ونقلت من خط الحافظ اليغموري قال: أنشدني الإمام ركن الدين أبو القاسم لنفسه في عز الدين بن أبي الحديد وقد صنف الفلك الدائر على المثل السائر:
لقد أتى باردا ثقيلا ... ولم يرث ذاك من بعيد
فهو كما قد علمت شيء ... أشهر ما كان في الحديد
وصنف كتابا يرد فيه على ابن أبي الحديد وسماه: نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر قلت: هذا ركن الدين أبو القاسم، هو محمود بن الحسين ابن الإمام أرشد الدين الأصبهاني الأصل السنجاري المولد. كان حنفيا يعرف المذهب والأصولين والخلاف والأدب، قرأ على السيف الآمدي وعلى ضياء الدين ابن الأثير، وبطل خرقة الفقهاء وتزيي بزي الأجناد، وتوفي بدمشق في سادس شهر رمضان سنة خمسين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون. ومولده في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وقال في انتقاله إلى الجندية أبياتا منها:
فانظر أخا العقل إلى حرفةٍ ... منها هربنا للوغى الجحفل
لو لم تكن أنحس ما في الورى ... لم ترض عنها بالردى الاعجل
وكنت أنا في وقت قد كتبت على المحصل للإمام فخر الدين الرازي أبياتا يحسن هنا ذكرها وهي:
علم الأصول بفخر الدين منتصرٌ ... به نصول بإعجاب وإعجاز