قلت أنا: وهذا نوع آخر غير هذا الذي نحن فيه، وطرق الجد غير طرق المزاح ومما قلت أنا:
وإذا تهتّك في الهوى سري غدا ... وتحدثت بصبابتي السمّار
أو قيل ذا المسكين أصل جنونه ... سحر العيون وما له أنصار
أيحل في شرع الهوى هذا ومن ... أفتى بأنّ دم المحب جبار
وعلمت أن هواك أصل بليّتي ... فعلى صدودك لا عليّ العار
أما سمع بما قنع به المحبون مثل جميل حيث يقول:
وإني لراضٍ منك يا بثن بالذي ... لو أيقنه الواشي لقرّت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد ماطله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
وجحدر حيث يقول:
أليس الليل يجمع أمّ عمروٍ ... وإيانا فذاك بنا تدان
وتنظر للهلال كما أراه ... ويعلوهها النهار كما علاني
والآخر حيث يقول:
إلى الطائر النسر انظري كل ليلةٍ ... فإني إليه بالعشية ناظر
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده ... فنشكو جميعاً ما تجنّ الضمائر
وأبي العلاء المعري حيث يقول:
لاقاك في العام الذي ولّى ولم ... يسألك إلا قبلةً في القابل
إن البخيل إذا تمد له المدى ... في الجود هان عليه بذل النائل
وأما ذكره إبليس واستصراخه به وحثه على وسواسه وتزيين الباطل له، فإنه من الغريب أتراه ما علم أن المحب إذا قال لمحبوبه: ما يدعك تزورني وتحنو علي إلا إبليس بوسواسه أن المعشوق يمثل ذلك بين عينيه ويقول: إن هذه الأمور من فعل إبليس ومطاوعة الشيطان في إتباع المحرمات المحظورة، فيرجع إلى الهجران، ويتقمص شعار الجفا والصد والإعراض ويكون في ذلك كالنائم الذي أيقظه غيره من الغفلة.
قال بعضهم: كان لي صديق، وكان لا يحتشمني ولا أحتشمه، فقال لي يوماً: يا أخي قد علمت حبي لفلانه ولم أقدر منها على شيء قط وقد زارتني اليوم، وأحب أن تكون عندنا فإني لا أحتشمك. فأجبته إلى ذلك. فلما صرت إلى مكانه، وأخذت عيني الجارية فرأيت أحسن النساء. ثم إنا أفضنا في الأكل والشرب والحديث، وسألني صاحبي الغناء وكنت مجيدا فيه. وكأن الله تعالى أنساني جميع ما أحفظه إلا هذا الصوت:
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
فلما سمعته الجارية قالت: أحسنت والله أعده يا أخي فأعدته، فوثبت قائمة وقالت: أنا إلى الله تائبة، والله ما كنت لأفضح أخي وأرفع شنار أبي. فجهد الفتى في رجوعها فلم تفعل وخرجت. فقال لي: ويحك، ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: والله ما هو شيء اعتمدته، ولكنه ألقي على لساني.
فانظر إلى فائدة ما ذكرته. والأنسب في طلب الوصال أن يقول: اسأل الله أن يعطف قلبك علي، ويلهمك اغتنام الأجر فيّ ويرزقك رحمتي لتدخل في الجنة كما غالط القائل محبوبه في قوله:
تجنّيت لي ذنبي ولم أك مذنبا ... وحمّلتني في الحب ما لا أطيقه
وما طلبي للوصل حرصٌ على البقا ... ولكنه أجرٌ إليك أسوقه
وكما غالط الآخر حيث قال:
قم بنا تفديك روحي ... نجعل الشك يقينا
فإلى كم يا حبيبي ... يأثم القائل فينا
وقد وقفت على بعض رسالة من كلام ابن سناء الملك وهو: وأنا والله في أمرك مغلوب والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب، ولا أتجالد عليك فأغرك، ولا أخون حبك ولا أقعقع عليك فأغشك وأغم قلبك، اعمل ما شئت فأنا الصابر، واقتل كيف شئت فأنا الشاكر، وقل لي فلي سمع يعشق قولك، والتفت تر آمالي ترفرف حولك، وافعل فأنت المعذور، واستطل فما أنا المضرور بل المسرور، وارجع إلى الود الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور انتهى.
قلت: ولله الوزير أبو الوليد بن زيدون حيث يقول:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سرٌ إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظّه مني، ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك إن حمّلت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعزّ أهن ... وولّ أقبل وقل أسمع ومر أطع