وعلى كُلِّ حالٍ، هذا إشكالٌ دائرٌ بين العُلَماءِ من قَدِيم، وقد أجابوا عنْ ذلكَ بأنَّ نوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانت رسالتُه إلى النَّاسِ كافَّةً في ذلكَ الوقتِ؛ عرَضًا لا أصلًا.
وفرْقٌ بينَ ما يأتي إلى أُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ أُرْسِل إلى كلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، ثم يُقال لهؤُلاءِ الأمم كلِّهم: يجب أن تَتَّبِعوا هذا الرَّسُولَ، لتكونَ الأُمَّةُ واحدةً، وبينَ مَن لم يُبْعَثْ إلَّا في قومِه فقطْ؛ في أُمَّة واحدةٍ فقطْ، فإنَّ كونَه مبعوثًا إليهم جميعًا على سبيلِ الإتِّفاقِ والعُرْف لا على سبيلِ القصدِ، وبهذا تَظْهَرُ المَيْزَةُ بينَ محُمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبين نوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ونَسْلَمُ منَ الإشكالِ.
فنقول: نوح أُرْسِل إلى قومِهِ وليس هناك أُمَمٌ مختلفةٌ يجبُ أنْ يَتوحَّدُوا على رَسُولٍ كما كَان في عهدِ النَّبيِّ محُمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وكونه مُرْسَلًا إلى جميعِ النَّاسِ في ذلك الوقتِ ليسَ من بابِ القَصْدِ، بل هو من بابِ الإتِّفاقِ والعَرَض، أي أنَّه اتَّفَقَ أن النَّاسَ كلَّهم انْحَصَرُوا في قومِ نوحٍ، فهنا ما قصدَ من رسالتِهِ أن تكونَ شاملةً لجميعِ الأُمَمِ، بخلاف رسالةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإِنَّه قصدَ أن تكونَ شامِلَةً، وأن يتوحَّد الْيَهُودُ والنَّصارَى والمَجُوسُ والوَثَنِيُّونَ، كلهم يَتَوَحَّدُون في أُمَّةٍ واحدةٍ، بفرق بين الْعُمومَيْن: الْعُموم القَصْدي والْعُموم الإتفاقي.
فهذا نوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يقول لهم: إن قومَه كذبوا المُرْسَلِينَ، ونحن نعلمُ أنَّهم ما كذَّبوا إلا رَسولًا واحدًا، فليسَ قبلَ نوحٍ أحد حتى نقول: كذبوا هذا وهذا.