قال تعالى:{مِنَ الرَّحْمَنِ}، وفي آية أخرى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ}[الأَنْبياء: ٢]، فذِكْر الرَّحْمن هنا إشارة إِلَى أن نزولَ هَذَا القُرآنِ وإتيانه من مقتضى رحمةِ اللهِ، وأن الله تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَحِمَ العبادَ بهذا القُرآنِ، وهذا كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[لأَنْبياء: ١٠٧]، أي {إِلَّا رَحْمَةً} مِنَّا {لِلْعَالَمِينَ}، وليس المَعْنى - كما يَفهم كثيرٌ منَ العوامّ - {إِلَّا رَحْمَةً} يعني: أنك أنت الرحمة، لا، يعني: وما أرسلناك إلا لِنَرْحَمَ العِبَادَ، هَذَا هُوَ المَعْنى، وليس هُوَ نفسه رحمةً كما يقول أهل الغُلُوِّ فِي النبي - صلى الله عليه وسلم - والجاهلون أيضًا.
يقول المُفسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ:[صفة كاشفة]، والصِّفَة الكاشفةُ هِيَ الَّتِي تُبَيِّن الواقِعَ، ولا تُقَيِّد الموصولَ؛ لِأَنَّ الصِّفات منها صفةٌ مقيِّدة تُخرِج ما سواه، ومنها صفة كاشفة تبيِّن حقيقةَ أمرِهِ.
فهنا يقول المُفسِّر: إن كلمة (مُحْدَث) صفة كاشفة؛ فكلمة:(مَا يَأْتِيهِمْ) تدل عَلَى (مُحْدَثٍ)، فلا مفهوم لها؛ لِأَنَّهُ إذا كَانَ يأتيهم وجبَ أن يكونَ محدَثًا؛ لِأَنَّ بإتيانِهِ إيَّاه صار مُحْدَثًا، ووجه ذلك ظاهرٌ أَنَّهَا صفةٌ كاشفة؛ لِأَنَّهُ لو كَانَ غيرَ مُحْدَثٍ ما صحَّ أن يقول:{وَمَا يَأْتِيهِمْ}، إذ هُوَ آتٍ من الأَصْل.
وقوله:{مُحْدَثٍ} وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن المحدَثَ هُوَ الذِّكر نفسُه، فيكون فِي الآيةِ دَلالة عَلَى أنَّ الله تعالى يَتَكَلَّم بالقُرآنِ حينَ إنزالِهِ، وأنه لَيْسَ - كما رُوي عنِ ابنِ عبَّاس - أَنَّهُ نزل إِلَى بيتِ العِزَّة منَ اللَّوْح المحفوظ (١)، وإنَّما يَتكلَّمُ
(١) أخرج النسائي فِي السنن الكبرى (٧/ ٢٤٧، رقم ٧٩٣٧) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "فُصِلَ