للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا شعبي! بلغني أنه اختصم إليك رجلٌ وامرأته، فقضيتَ للمرأة على زوجها، فقال فيك شعراً، فأخبرني بقصتيهما وأنشدني الشعر إن كنت سمعته. فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسألني عن ذلك. فقال: عزمت عليك لتخبرني. قال: نعم، اختصمت إلى امرأة وبعلها، فقضيت للمرأة إذ توجه لها القضاء، فقام الرجل وهو يقول:

فُتِن الشّعْبيُّ لّما ... رَفَعَ الطَّرْفَ إليها

بفتاةٍ حين قامتْ ... رفَعَتْ مَأكَمَتَيْها

ومشت مشياً رُوَيْداً ... ثم هزّت مِنْكبَيْها

فتنتهُ بقوامٍ ... وبخطَّىْ حاجبيها

وبنانٍ كالمَدَارِي ... واسْودادِ مُقْلتَيْها

قال للجِلْوَازِ قَرّب ... هَاوأحْضِر شاهديْها

فقضى جوراً علينا ... ثم لم يَقْضِ عَلَيها

كيف لو أبْصر منها ... نحرَها أو سَاعِدَيها

لصَباَ حتى تَرَاهُ ... ساجداً بينَ يَدَيْها

بنتُ عيسى بن حَرادٍ ... ظُلِمَ الخَصْمُ لَدَيْها

قال عبد الملك: فما صنعت يا شعبي؟ قال: أوجعتُ ظهرهَ حين جوّرني في شعره.

هذا ما رواه سفيانُ بن عيينة، عن سالم بن أبي حفصة، عن الشعبي، وهو أصح إسنادٍ لهذا الخبر. وذكر الهيثم بن عدي، قال: خاصمت أم جعفر بين عيسى بن حراد زوجها إلى الشعبي، فلما قامت بين يديه، قيل لها: ما صعنت؟ قالت: سألني البينة، ومن سأل البينة فقد فلج، ثم قضى لها، فقال هذيل الأشجعي:

فنن الشّعبىّ لما ... رفع الطرفَ إليها

وذكر الأبيات: وفي رواية الهيثم بن عدي: أن الشعر لهذيل الأشجعي فيها، فبلغ ذلك الشعبي، فقال: أبعده الله، ما قضينا إلا بحق. قال الهيثم: فحدثني ابن أبي ليلى، قال: خرجنا مع الشعبي من المسجد، وقد قام من مجلس القضاء، فمررنا بجارية تغسل في إجانة فلما رأت الشعبي قالت:

فُتن الشّعبيّ لما

فقال الشعبي:

رفع الطّرفَ إليها

خاصم الوليد بن صريع، مولى عمرو بن حريث، أخته أم كلثوم ابنة صريع إلى عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، وكان يقال له: القبطي، لفرسٍ كان له فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:

لقد عثرَ القبطيُّ أو زَلَّ زلةً ... وما كان منه لا العثارُ ولا الزّللْ

أتاه وليدٌ بالشُّهودِ يقودُهُمْ ... على ما ادّعَى من صامتِ المالِ والخَوَلْ

يقودُ إليه كلْثُماً وكلاُمها ... شفاءٌ من الدَّاءِ المخامرِ والخَبَلْ

فأدْلى وليدٌ عند ذاك بحجةٍ ... وكان وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ

وكان لها دَلٌّ وعينٌ كحيلةٌ ... فأدْلَتْ بحُسنِ الدَّلِّ منها وبالكَحَلْ

فأفْتنَت القبطيَّ حتّى قضى لها ... بغيرِ قضاءِ الله في مُحْكَم الطُّوَلْ

فلو أنّ من في القصرِ يعلمُ علْمَه ... لما اسْتَعملَ القبِطيَّ يوماً على عَمَلْ

له حين يقضي للنساء تَخَاوُصٌ ... وكان ومات فيه التخَاوص والحَوَلْ

إذا ذاتُ دَلٍّ كلمتهُ بحاجةٍ ... فهمَّ بأنْ يقضى تَنَحْنَح أو سَعَلْ

وبرّقَ عينيه ولاكَ لسانَهُ ... ويَرَى كل شيءٍ ما خلا شخصَها خَلَلْ

فبلغ ذلك عبد الملك بن عمير، فقال: ما لهذيل أخزاه الله؟ والله لربما جاءتني النحنحة أو السعلة وأنا في المتوضأ فأردها مخافة ما قال.

لعبد الله بن سليمان النحوي المكفوف:

تقولُ من للعمى بالحُسْن قلتُ لَها ... كَفَى عَن الله في تحقيقهِ الخبرُ

القلبُ يُدرك مالا عينَ تدركُهُ ... والحُسْنُ ما استحسنتْه النفس لا البَصرُ

وما العيونُ التي تعمى إذا نظرَتْ ... بل القلوبُ التي يَعْمىَ بها النظرُ

وقال أيضاً ينقُضه:

ما إن يُمتِّع بالمعشوقِ عاشِقَهُ ... سمعٌ إذا لم يمتّعْهُ به البَصرُ

وكل قلبٍ له حبٌّ يقلبه ... وأعذب الحبِّ ما أحباكه النظرُ

<<  <   >  >>