نظر كسرى إلى رجلين من مرازبته أحدهما قد شاب رأسه قبل لحيته، والآخر قد شابت لحيته قبل رأسه، فأراد أن يعرف جواب كل واحد منهما عن حاله تلك. فقال لأحدهما: لم شاب رأسك قبل لحيتك؟ قال: لأن شعر رأسي خلق قبل شعر لحيتي، والكبير يشيب قبل الصغير. وقال للآخر: لم شابت لحيتك قبل رأسك؟ قال: لأنها أقرب إلى الصدر موضع الهم والغم.
قال حبيب:
شاب رأسي وما رأيت مشيب ال ... رأس إلا من فضل شيب الفؤاد
قيل لعبد الملك بن مروان: أسرع إليك المشيب. قال: فكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل أسبوع - يعني الخطبة.
روى عن ابن عباس رحمه الله، قال: شيب الناصية من الكرم، وشيب الصدغين من الروع، وشيب الشارب من الفحش، وشيب القفا من اللؤم.
قال مكي بن إبراهيم:
مشيب لئام الناس في ذروة القفا ... وشيب كبار الناس فوق المفارق
قال قيس بن عاصم: الشيب خضاب المنية.
قال بعض الحكماء: الشيب موت الشعر.
قال معمر بن سليمان: الشيب مراحل الموت.
نظر بعض الأعاجم إلى شيبٍ في رأسه أو لحيته، فجمع نساءه وقال: تعالين فاندبنني إذا مات بعضي، لأبصر كيف تندبنني إذا مات كلي.
[باب الكبر والهرم]
قال الله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك أن أرد إلى أرذل عمر ".
وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الغم والهم والكسل والهرم.
وفد عمرو بن مسعود السلمي على معاوية بن أبي سفيان، وكان صديقاً لأبي سفيان، فلما مثل بين يدي معاوية عرفه، فقال له: كيف أنت وحالك؟ فقال: ما يسأل أمير المؤمنين عمن سقطت ثمرته، وذبلت بشرته، وابيض شعره، وانخني ظهره، وكثر منه ما يحب أن يقل، وصعب منه ما كان يحب أن يذل، وترك المطعم وكان المنعم، وهجر النساء وكن الشفاء، وقصر خطوه، وذهب لهوه، وكثر سهوه، وثقل على الأرض، وقرب بعضه من بعض، فقل إيحاشه، وكثر ارتعاشه، فنومه سبات، وهمه تارات، وأنشد شعراً حسناً في معناه، تركته لطوله.
وقال أبو عبيدة: عاش أنس بن مدرك الخثعمي مائة سنة وأربعا وخمسين سنة، وكان سيد خثعم في الجاهلية، وفارسها. وأدرك الإسلام فأسلم، وقال في كبره:
إذا ما امرؤ عاش الهنيدة سالماً ... وخمسين عاماً بعد ذاك وأربعا
تبدل مر العيش من بعد عذبه ... وأوشك أن يبلي وأن يتسعسعا
ونادي به الأدني وترضى به العدا ... إذا صار مثل الدال أحدب أخضعا
رهينة قعر البيت ليس يريمه ... لقىً ثاوياً لا يبرح البيت مضجعا
يخبر عمن مات حتى كأنما ... رأى الصعب ذا القرنين أو راء تبعا
قال أبو عبيدة: عمر نصر بن دهمان الأشجعي مائة وتسعين سنة، واعتدل بعد ذلك وصار شاباً، واسود شعره، وكان أعجوبة غطفان في سائر العرب وفيه قال الشاعر:
ونصر بن دهمان الهنيدة عاشها ... وتسعين حولاً ثم قوم فانصاتا
وعاد سواد الرأس بعد بياضه ... ولكنه من بعد ذا كله ماتا
روى سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، قال: دخل عمرو بن حريث على أبي العريان الهيثم بن الاسود النخعي يعوده ويزوره، فقال: كيف تجدك يا أبا العريان؟ قال أجدني قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض، ولأن مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين. وزاد غيره في هذا الخبر: وأجدني يسبقني من بين يدي، ويدركني من خلفي، وأنسي الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملاء، وأسهر في الخلاء، وإذا قمت قربت الأرض مني، وإذا قعدت بعدت عني. ثم اتفقت الرواية:
فاسمع أنبئك بآيات الكبر
تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة الطعم إذا الزاد حضر
وكثرة النسيان ما بي مدكر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر
أوله نوم وثلثاه سهر
وسعلة تعتادني مع السحر
وتركي الحسناء في حين الطهر
وحذراً أزداده إلى حذر
والناس يبلون كما يبلي الشجر
وقال يحيى بن الحكم الغزال:
تسألني عن حالتي أم عمر ... وهي ترى ما حل بي من الغير