إننا نريد تعريب المعرفة لا دعم التغريب وتكريسه. وإذا فشلنا في تعريب العلوم وإنشاء مصطلحات جديدة تناسب الارتقاء العلمي في كل المجالات، فإن هذا يعني أمرا واحدا هو أننا متسولون في ميادين الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء.. إلخ. وسنبقى متسولين أبدا.
إننا نملك ناصية المعرفة عندما ننقلها إلى لساننا، أما عندما ننتقل نحن إلى ألسنة الآخرين، فسنكون عالة عليهم، وسنبقى أتباعا ضائعي الهوية، لا قيمة لنا في الأرض، ولا وزن لنا في السماء!
إن وضع اللغة العربية في أقطار العالم العربي مؤسف إلى حد الإبكاء. أقطار كاملة من أملاك العربية لا تكاد تسمع فيها العربية على الإطلاق، فقد أسلمت قيادها للهجة أو عدة لهجات محلية طاغية على كل ما فيها ومن فيها، في البيت والشارع ووسائل الإعلام والإعلان.. إلخ.
وليت الأمر يتوقف عنه هذا الحد، بل إنك لتجد المعلمين في المدارس، والأساتذة في الجامعات يدرسون ويحاضرون باللهجات العامية. فإذا سألت أحدهم: لماذا لا تدرس باللغة العربية؟ فإذا كان عربي التخصص فقد يعتذر بأنها "العادة" التي طغت على تدريسه، وقد يعد بأنه سوف يحاول. وإذا كان معلما لمادة غير العربية وآدابها، فربما جاء اعتذاره أقبح من الذنب قائلا: وما أهمية ذلك؟ أنا لست "بتاع" عربي! وهنا يحس المرء حقيقة أن اللغة العربية ليست بحاجة إلى الاهتمام بتعليمها وممارستها فقط، بل هي بحاجة إلى الحب أولا وقبل كل شيء. فهل نستطيع أن نعلم أبناءنا وشبابنا حب لغتهم والاعتزاز بها؟!
وهناك أقطار كاملة أخرى من أملاك العربية تحتلها رطانات أسيوسية وأوربية تصر على أن تملأ آذان الحياة بضوضائها ولغوها. وقد تسللت هذه الرطانات والضوضاء إلى داخل البيوت، والمخادع، وتولت تربية الأطفال، وفرضت أصواتها ونبراتها ولكنتها على الأسرة العربية، وروجت أذواقها وأفكارها، كما روجت بضائعها ومنتجاتها.. حتى ليتذكر المرء وهو ضائع بين هذه الرطانات والعناصر الثقافية الغربية قول المتنبي في شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
إننا نتطلع إلى اليوم الذي يتحول فيه كل العرب إلى عشاق مغرمين بلسانهم، ذائبين في حرفه، يحسنون درسه، ويجيدون نطقه، ويلزمون غرزه، فلا ينطقون على أرض العرب إلا بالعربية، وعلى من أراد أن يعيش بين ظهرانيهم من الأجانب أن يتعلم لسانهم، ويعاملهم بكلامهم. عندئذ سوف تكون لنا مكانة في الأرض وذكر في السماء.