للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها: أن أمية بن أبي الصلت١ قبل أن يمدح ابن جدعان: كان قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب، فرأى طعام بني عبد الديان٢ منهم لباب البر والشهد والسمن، وكان ابن جدعان التمر والسويق ويسقي اللبن، فقال، أمية:

ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان

البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان

فبلغ شعره عبد الله بن جدعان؛ فأرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وأمر مناديا ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنه عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك:

له داع بمكة مشمعل٣ ... وآخر فوق كعبتها ينادي

إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد٤

وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك سريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشريته، ونفاه أبو وحلف أن لا يأويه أبدا، لما أثقل به من الغرم. وحمله من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا يتمنى الموت ينزل به، فرأى شقا في الجبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح؛ فلم ير شيئا، فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم، له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأخرج له فانسابت عيناه مستديرتان ينظران نحو بيت، فخطا خطوة، فصفر به الثعبان، وأقبل عليه كالسهم، فأخرج له، فانساب عنه قدما لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أن مصنوع، فأمسكه بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثله طويلا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة، فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة، وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طوال الزمن، وشعر مكتوب في اللوح، فيه عظات، آخر بيت منه:

صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب


١ شاعر جاهلي، طلب النبوة، وكان يحدث في شعره بأحاديث خلق الكون وقصص الأنبياء، ورثى قتلى بدر، وتوفي عام ٩هـ.
٢ في الروض الأنف ١/ ١٥٨: "المدان".
٣ مشمعل: بعيد الصوت أو سريع.
٤ الروح: جمع رواح، وهي الجفان الكبيرة، الشيزى: نوع من الخشب تتخذ منه القصاع، اللباب: خالص الشيء يلبك: يخلط أو يعجن، الشهاد: نوع من العسل.

<<  <  ج: ص:  >  >>