للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على أن حديث هيرودوتوس، إذا كان يعطينا أول معلومات جادة عن شبه الجزيرة العربية وأبعاد الحياة فيها، فإن هذا الحديث، رغم كل ما يلقيه من ضوء على هذه النقطة، يبقى حديثا موسوعيا يعنى بالقضايا العامة التي تقترب من المعرفة المجردة بقدر ما تبتعد عن المعلومات التفصيلية المحددة التي تعرف القارئ بالأماكن والقبائل والطرق والمسافات والاتجاهات. وعلينا أن ننتظر حتى العقود الأخيرة من القرن الرابع ق. م. لنشهد مرحلة جديدة في الكتابات الكلاسيكية تنتقل فيها شئون شبه الجزيرة من حديث التعميم والتجريد إلى حديث التخصيص والتحديد، وهو اتجاه ساعدت عليه حركة التخصص العلمي التي بلغت ذروتها عند المفكرين والكتاب اليونان في تلك الفترة، كما واكب وعكس انتقال شبه الجزيرة من حافة الاهتمام الدولي إلى داخل دائرة هذا الاهتمام بعد أن أقدم الإسكندر الأكبر على توسعه الإمبراطوري في الشرق واتجه بتفكيره إلى غزو شبه الجزيرة العربية٩.

ورغم أن هذا الغزو لم يخرج إلى حيز التنفيذ بسبب الموت المفاجئ للإسكندر في ٣٢٣ ق. م. إلا أن الاستعدادات التي اتخذها لتحقيق هذا الهدف تضمنت إرسال عدد من قادته وأعوانه للتعرف المبدئي على شبه الجزيرة فيما يخص مساحتها وسواحلها وبعض الجوانب الأخرى التي تتصل بها١٠.

وقد سجل المعلومات التي حصل عليها هؤلاء, اثنان من الكتاب الكلاسيكيين: أحدهما متخصص في الأمور العسكرية وهو بطلميوس ptolemaios ابن لاجوس، أحد رفاق الإسكندر وقواده البارزين، والثاني، وهو أرستوبولوس aristoboulos، رجل عسكري آخر من ثقات الإسكندر، ولكنه متخصص


٩ كان أبرز معالم حركة التخصص العلمي آنذاك هو معهد اللوقيون الذي أسسه أرسطو وكان أول رئيس له. عن الدوافع وراء تفكير الإسكندر المقدوني في غزو شبه الجزيرة العربية راجع الحديث عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة العربية في القسم الثالث من هذه الدراسة.
١٠ arrianos: anabasis, VII, ٢٠: ٨-١٠, strabo: XVI,٤:٤.

<<  <   >  >>