جعلته يحتك بعديد من المجتمعات. أما العامل الثالث الذي يضفي أهمية على كتابته التاريخية فهو طريقته الموضوعية في الكتابة، وهي طريقة أدت بالمؤرخ الحديث جيبون gibbon إلى أن يقول عنه أنه "يكتب بلا أحكام مسبقة وبلا انفعال، وهما صفتان عادة ما تؤثران على من يكتب عن مواقف يعاصرها"، هذا وإن كانت هذه الصفة لا تحول دون وقوع هذا الكاتب في خطأ أو التباس أو مبالغة في بعض الملاحظات التي يبديها عن العرب في بعض الأحيان.
ولعل في ذكر بعض إشاراته عن العرب وشبه الجزيرة العربية ما يعطينا فكرة عن هذه الإشارات وعن طريقة تقديمه لها. وأولى هذه الإشارات تصف موقفا في عام ٣٧٨م. ففي ذلك العام قامت قوة كبيرة من البرابرة مكونة من مجموعات من القوط والألان والهون بالزحف على القسطنطينية بعد أن هزموا الرومان في أدريانوبوليس، وقد سقط في المعركة عدد من القواد الرومان والإمبراطور نفسه وأصبح الموقف حرجًا. وفي هذا الشوط تقدمت الفصائل العربية التي كانت تحارب ضمن القوات الرومانية لمهاجمة البرابرة الغربيين، وهنا يقول أميانوس عن هذه الفصائل التي يسميها فصائل السراكيني saraceni: إنهم "أخذوا المبادرة على أثر حادثة غريبة لم يشهدها أحد من قبل، ذلك أن واحدا من بينهم، وهو رجل ذو شعر طويل وعارٍ إلا من قطعة قماش تغطي عورته، أخذ يطلق صيحات خشنة مخيفة ثم اندفع بسيفه القصير وسط القوطيين، وبعد أن قتل أحد رجالهم ألصق شفتيه بزور الرجل المقتول وأخذ يمص الدم الذي كان يتدفق منه بغزارة، وعند ذلك أصيب البرابرة بالرعب من هذا المنظر الغريب الوحشي، وبعدها فقد هؤلاء ثقتهم المعتادة