يصل إلينا من خلال الانطباع الذاتي أو المعاناة الشخصية للشاعر, فإن هذا الانطباع أو هذه المعاناة تتم في إطار التجربة التي يعيشها ويمارسها المجتمع الذي يوجد فيه الشاعر, ولا يملك الشاعر في هذه الحال إلا أن يكون جزءًا منها مهما اختلفت طريقة التعبير عنها من شاعر لآخر. على أننا ونحن بصدد التأريخ للمجتمع, لا نأخذ, ولا ينبغي أن نأخذ، الشعر كما هو على أنه حقائق تاريخية أو حضارية؛ فالشاعر قد يبالغ وقد يتخيل وهو حتى إذا تحدث عن حقائق فهو يبرزها لنا من خلال انفعاله الخاص بها. ولكن رغم ذلك فهناك عدد من الحقائق الثابتة نستطيع أن نستخلصه من الشعر عن أحوال المجتمع, إذا تخطينا المبالغات والتخيلات والانفعالات الخاصة.
ومن بين هذه الحقائق, الاتجاهات العامة التي تسود المجتمع مثل القيم التي تحكمه وطبيعة تصوره لها ومن ثم الدوافع التي تعيننا على تفسير عدد من تصرفات هذا المجتمع. وفي هذا المجال فنحن قد لا نفهم عددا من العلاقات القبلية قبل الإسلام أو على الأقل لا نفهم كل الأبعاد التي وصلت إليها دون أن نعرف تصور مجتمع ما قبل الإسلام لمعنى الشرف أو الرابطة العصبية أو لممارسة الثأر -وكلها معانٍ تبرز في وضوح من خلال الشعر الجاهلي. كذلك نستطيع أن نفهم اضطرار عرب البادية إلى الارتحال المستمرِّ نتيجة لظروف الجفاف التي سيطرت على شبه الجزيرة العربية من خلال وصف الأطلال والبكاء عليها والحنين إلى العلاقات التي تمت في ظل ما كان بها من جوار ولقاءات يجد البدوي نفسه مضطرًّا إلى التضحية بها أمام واقع الوضع الاقتصادي الذي يدفعه إلى السعي وراء الكلأ وانتجاعه حيثما كان. كذلك نحن نستطيع أن ندرك في وضوح كثير مدى ما تتركه ندرة المطر في شبه الجزيرة على تصرفات القبائل وعلاقاتها فيما بينها إذا عرفنا أن شاعرًا مثل عمرو بن كلثوم يجد من بين دواعي فخره أن قبيلته ترد عين الماء أولًا فتنعم بالماء الصافي ولا تترك لغيرها من القبائل إلا ما تبقى من الكدر والطين وهكذا.