وليست الاتجاهات العامة هي كل ما نستخلصه من الشعر, وإنما نعرف منه إلى جانب ذلك أشياء أخرى لا يملك الشاعر أن يغير فيها شيئا ولا يوجد ما يدعوه إلى ذلك؛ لأنها من صميم بيئته، مثل الحيوانات التي يعتمد عليها في تنقله رعيا أو تجارة أو حربا، ومثل الملابس التي يتخذها الرجال والنساء ومثل البيوت "أو الخيام" وطريقة بنائها أو إقامتها، ومثل الآلهة والمعتقدات والشعائر والطقوس، ومثل أسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو يرتحلون إليها، سواء أكانت مدنا أم قرى أم مواضع، ومثل الطرق التي كانوا يسلكونها في تنقلاتهم والمعالم التي تحيط بها أو تطل عليها، ومثل الأسواق التي كانوا يلتقون فيها لقضاء معاملاتهم، ومثل المواقع أو الأيام التي تركت أثرًا في حياتهم، وفيض آخر إلى جانب كل هذا عن تفاصيل حياتهم وممارستهم اليومية تعيننا مرة أخرى على تفهم تصرفاتهم وعلاقاتهم.
هذه هي قيمة الشعر كمصدر أساسي من مصادر التاريخ, نترك منه ما يشوبه الخيال، وما يعبر من خلاله الشاعر عن الانفعال المؤقت أو عن الانطباع الشخصي، أو ما نرى فيه شيئا من المبالغة التي تنتج عن المثالية والميل الطبيعي نحو البطولة وهو ميل من الطبيعي أن ننتظره في الشعر، ونستطيع أن نتحقق منه عن طريق المقارنة بما تصل إليه أيدينا من مصادر أخرى مثل النقوش والآثار وكتابات المؤرخين والرحالة والجغرافيين حتى نصل إلى أقرب نقطة ممكنة من الحقيقة التاريخية. وفي هذا المجال، فإن تصوير أحوال شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام اعتمادًا على ما تركه لنا شعراء الجاهلية, ليس بدعا أو أمرا غير عادي؛ فقد اعتمد مؤرخو الحضارة اليونانية وتاريخها على ما جاء في ملحمتي الإلياذة والأوديسية المنسوبتين إلى الشاعر اليوناني هوميروس Homeros بعد تمحيصه ومقارنته بالمصادر الأثرية والتاريخية