من بينها فترة على الأقل في العصر القديم ظلت ذكراها متواترة إلى أن أشار إليها القرآن الكريم, وفترة أخرى في العصر الوسيط ذكرها المؤرخون المسلمون. وكان المصريون حسب الانطباع الذي يتركه لدينا القرآن وحسبما سجل المؤرخون المسلمون، يقاسون مقاساة شديدة, ومع ذلك فلم يترك المصريون موطنهم الأصلي ويهاجروا إلى مناطق جديدة. والشيء ذاته نجده في وادي الرافدين، فقد عرفت هذه المنطقة فترات مشابهة من الجفاف والقحط في عصورها المختلفة نتيجة لانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات في وقت الفيضان، وقد وعت ذاكرة السكان في وادي الرافدين القحط, والشدة التي تعرض لها سكان البلاد في تلك الفترات منذ القدم وسجلها التراث الشعبي العراقي القديم فيما تركوه من ملاحم في عصر السومريين والبابليين، ولكن هذه الملاحم لم تذكر ولو مرة واحدة شيئًا عن هجرة سكان وادي الرافدين أو عن تفكيرهم في الهجرة٣٢.
والملاحظة الثالثة هي أنه ليس هناك سبب حقيقي يدعو إلى الافتراض أن كل الشعوب المتحدثة باللغات السامية قد هاجرت بالضرورة من موطن صحراوي أو أن هذه الشعوب قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية, والدليل الذي أسوقه في هذا الصدد هو وضع "الأكديين" في وادي الرافدين في العصور القديمة. لقد كان هؤلاء الأكديون شعبا ساميا يقطن المنطقة الزراعية الوسطى في وادي الرافدين التي تمتد بين نهري دجلة والفرات من نهر في الجنوب إلى هيت وسامراء في الشمال تقريبا، وقد ظهروا بشكل قوي على مسرح تاريخ وادي الرافدين ابتداء من عهد الملك سارجون الأكدي "حوالي
٣٢ عن إحدى فترات الإقفار والقحط في مصر في العصور القديمة، راجع القرآن الكريم: سورة يوسف، آيات ٤٣ - ٤٨، إحدى فترات الإقفار في العصور الوسطى يشير إليها المؤرخ الإسلامي عبد اللطيف البغدادي. مثال من فترات الإقفار والقحط في وادي الرافدين في العصور القديمة يرد في النصوص الخاصة بالطوفان في النسخة البابلية "أتراخاسيس", راجع ترجمتها العربية في فاضل عبد الواحد علي: المرجع ذاته، صفحات ٦٠ - ٦١.