للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيه من قواعد والتزامات دقيقة؛ بل هم يعتمدون على فن آخر، لعله أكثر تعقيدًا وهو "فن التصوير" ولعله ذلك ما جعل "جب" يقول: إن أدب العرب أدب رومانتيكي١؛ فهو في أقدم نماذجه يغلب عليه الخيال و"التصوير". ومن يرجع إلى نماذج امرئ القيس وهو من أقم الشعراء الجاهليين٢ سيلاحظ أنه يُعْنَى بالتصوير في شعره كأنه "التصوير" غاية في نفسه؛ فالأفكار تتلاحق في صفوف من التشبيهات، حتى تستتم هذا الفن من "التصوير" وكأنما القصائد برود يمانية؛ ففيها ألوان نقوش ورسوم على صور وأشكال كثيرة. وغير امرئ القيس من الجاهليين مثله، يعنى بالتصوير في شرعه عناية بالغة، كأنه أصل مهم من أصول صناعتهم، ونحن نسوق لقارئ قطعة من مطولته في وصف فرسه ليرى دليل رأينا؛ إذ يقول:

وقد أغتدي، والطيرُ في وُكُناتها ... بمنجردٍ قَيْد الأوابد هيكل٣

مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطَّه السيل من عَلِ

كُميتٍ يَزِلُّ اللِّبد عن حال مَتْنِهِ ... كما زلت الصفواء بالمتنزَّلِ٤

على الذَّبْل جَيَّاشٍ، كأنَّ اهتزامه ... إذا جاش فيه حمية غَلْيُ مِرْجَلِ٥

مِسَحٍّ إذا ما السابحاتُ على الوَنَى ... أَثَرْنَ الغُبار بالكديد الْمُركَّلِ٦

يَزِلّ الغلام الخف عن صهواته ... ويلوي بأثواب العنيف المثَقَّلِ٧


١ تراث الإسلام ترجمة لجنة الجامعيين ١/ ١٥٤.
٢ ولد امرؤ القيس حوالي عام ٥٠٠م وتوفي حوالي عام ٥٤٠م انظر ,Caussin Deperceval, Essai sur l;histoire des araves, ١١, ٣٠٣-٣٢٢.
٣ أغتدي: من الغدو وهو السير مع طلوع الشمس، وكناتها: أوكارها، المنجرد: الفرس قصير الشعر، وهو من صفات الخيل الكريمة، والأوابد: الوحوش النافرة، هيكل: ضخم.
٤ كميت: أحمر اللون، يزل: يسقط، حال المتن: موضع اللبد من ظهر الفرس، والصفواء: الصخرة الملساء، والمتنزل: الموضع المنحدر.
٥ الذبل: الضمور، جياش: شديد الاضطراب والحركة، والاهتزام: صوت جوفه عند الجري، الحمى: الغلي، المرجل: القدر.
٦ مسح: كثير الجري، السابحات: الخيل السريعة، الونى: التعب، الكديد: الأرض الصلبة، المركل: الذي أثرت فيه الحوافر. يقول: إنه يسبقها حين تجري معه ولا يصيبه ما يصيبها من إعياء وتعب؛ بل يشتد جريه.
٧ الخف: الخفيف، صهواته: موضع اللبد. ويلوي بأثواب العنيف المثقل: يريد أنه يكاد يصرعه ويسقطه هو الآخر.

<<  <   >  >>