وأبو تمام لا يقف بفنه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التي يبتهج بها الحس؛ بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدة يبتهج بها العقل، وهي ألوان قاتمة، كانت تتسرب إليه من الفلسفة والثقافة العميقة. وفي هذه الألوان القاتمة الجديدة تستقر مهارته إذا قسناه بغيره من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه؛ فقد استطاع أن يستوعب الفلسفة والثقافة وأن يحولهما إلى فن وشعر؛ إذ تتعلق بهما ألوان التصنيع السابقة، أو بعبارة أدق يتعلقان هما بتلك الألوان؛ فإذا كل لون منها يعبر عن فكر عميق؛ فالطباق والجناس والتصوير والمشاكلة، كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوان الثقافة القاتمة، فيجلِّله الغموض في كثير من جوانبه وأجزائه ولكن أي غموض؟ إنه الغموض الفني الذي يشبه تنفس الفجر، فالأفكار والصور وكل ما يعتمد عليه أبو تمام من ألوان يلتف في ثياب من هذا الغموض، بل في ألوان قاتمة من هذه الظلال التي لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، فيضفي على كلما يمسه حسنًا وجمالًا.
وقد وقف العباسيون طويلًا عند هذا الجانب من الغموض الفني عند