للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤- التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

لعل أهم جوانب التصنيع القديم التي كان يستخدمها أبو تمام جانبُ التصوير الذي رأيناه يمتزج بالجناس والطباق والمشاكلة؛ فقد كان أبو تمام يشغف به شغفًا شديدًا، واستطاع أن يحلِّلَهُ إلى أصباغه المختلفة، وأن يستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره؛ بحيث لا نجمع طائفة من صوره حتى تخرج لنا منها أصباغ تحكي أصباغ الطَّيف وهي أصباغ لا تتقيد بعدد ولا بوضع ولا بشكل خاص، ومع ذلك فنحن نستطيع أن نلاحظ في وضوح أنه كان يعتمد على صبغ التدبيج؛ حتى يعطي لصوره ألوانًا حسية ملموسة، كما نرى في مثل قوله:

كأن سوادَ الليلِ ثم أخضرارَهُ ... طيالسةٌ سودٌ لها كُففٌ خضرُ١

وقوله في عتاب صديق:

لا تبعدن أبدًا وإن تبعدْ فما ... أخلاقُك الخضرُ الرُّبى بأباعدِ

وإن الإنسان ليخيل إليه كأن أبا تمام استوعب جميع صور التدبيج في شعره، وكان ما يزال يحكم في صوره حتى يقول:

وصلتْ دموعًا بالنجيع فخدُّها ... في مثل حاشية الرِّداء المعلَمِ٢

فالدموع اختلطت بالدم وسالت على خدها حتى أصبح كأنه حاشية لرداء مخطط، أرأيت إلى هذه الصورة؟ إن أبا تمام يعتمد في ضبطها على التفصيل في التدبيج، وهو كثيرًا ما كان يلجأ إليه كأن يقول:

نضا ضوءُها صبغ الدُّجنةِ فانطوى ... لبهجتها ثوبُ الظلامِ المجزَّعِ٣


١ طيالسة: جمع طيلسان، وهو ثوب فارسي. الكفف: الحواشي.
٢ النجيع: الدم.
٣ نضا: خلع. المجزع: المختلط سواده ببياضه.

<<  <   >  >>