للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٥- تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

من أهم الوسائل التي كان يستخدمها المتنبي وغيره من الشعراء في هذه العصور وسيلة الفلسفة والثقافة اليونانية؛ فقد كان يحاول أن يستوعب الأفكار والصيغ الفلسفية في قصائده ونماذجه حتى يتخلص قليلًا من صيغ الفن الثابتة وقوالبه العتيقة، وإن الإنسان ليحس دائمًا عند المتنبي أنه كان يبحث عن صيغ جديدة للتعبير، ولكنه لم يكتفِ بأن يخضع هذا البحث لتجاربه الخاصة في التعبير عن وجدانه وأفكاره؛ إذ ذهب يقترض طائفة من الصيغ المذهبية أو الفلسفية، وبذلك انصب كثير من تجديده على تغييره في القيود ووجوه التكلف. وقد تكون القيود القديمة جميلة؛ فهي قيود فنية، أما القيود التي جاء بها المتنبي فلم تكن فنية، بل كانت شيعية أو صوفية أو فلسفية. على أنه لم يستطع أن يجري في هذا الجانب الثقافي على الدرب الذي مهده أبو تمام فقد رأيناه يستخدم الثقافة والفلسفة استخدامًا فنيًّا غريبًا على نحو ما رأينا في وصفه لعمورية، وكما رأينا في استخدامه لنوفر الأضداد، الذي أحاله عن حقيقته الفلسفية وجعله وسيلة رائعة من وسائل الزينة في صناعته. أما المتنبي فقد نقل كثيرًا من الأفكار والعبارات الفلسفية إلى الشعر؛ ولكنه لم يحولها عن حقيقتها، فالباحث يحس دائمًا بمكانها وأنها مجتلبة اجتلبها الشاعر ليدل على ثقافته وليحقق لنفسه ما يريد من الجديد في صناعته.

ولعل أول ما يقابلنا من ذلك حكمه الكثيرة التي شاعت في شعره، وعرف بها عند القدماء والمحدثين؛ فهم يذكرون أن الصاحب بن عبّاد ألف رسالة لفخر الدولة ابن بُويه، جمع فيها من شعر أبي الطيب زهاء ثلاثمائة وسبعين بيتًا تجري

<<  <   >  >>