كان المتنبي مثقفًا ثقافة واسعة بكل ما عرف لعصره من معارف وآراء، وقد اتجه بشعره إلى أن يستوعب أساليب هذه المعارف والآراء، وأن يمثِّل عناصرها المتنوعة حتى ينال إعجاب العلماء والمثقفين لعصره، وهذا هو كل ما أصابته حرفة الشعر من تطور في صياغتها عند المتنبي؛ فإن القصيدة لم تعد تعبر فقط عن خواطر وجدانية بل أصبحت تعبر أيضًا عن ثقافة، حتى تظفر بالنجاح في بيئات العلماء والمثقفين.
وإن الإنسان ليخيل إليه أنه لم يكن هناك تعبير غريب أو أسلوب غير مألوف في بيئة مثقفة إلا وتكلّفه المتنبي في شعره؛ فمن ذلك ما لاحظه صاحب الصناعتين من أنه يجمع "الدنيا" على "دنا" صنيع أصحاب الأدوار والتناسخ١، كما في قوله:
تتقاصرُ الأفهامُ عن إدراكِهِ ... مثل الذي الأفلاكُ فيه والدُّنا