حاولت في هذا الكتاب أن أضع للشعر العربي مذاهب فنية تفسر تطوره في عصوره وأقاليمه المختلفة، وقد صادفني مشكلتان أساسيتان، وهما: كيف أرتب هذا الركام الهائل من الشعر والشعراء الذي يمتد من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث؟ ثم أي المصطلحات أتخذها للدلالة على مذاهب الشعراء ومناهجهم الفنية؟ ورأيت أن أنحاز عن هذا الخليط المضطرب من الألفاظ الغربية التي نقلها بعض نقادنا المحدثين من مثل "كلاسيك" و "رومانتيك" ونحوهما؛ فإن من الصعب أن نحمل أدبنا على مذاهب الأدب الغربي، وهو لا يمت إليه بوشائج تاريخية ولا فنية، وذهبت أبحث في الشعر العربي وموجاته المتعاقبة؛ فلم أجد فيه تجديدًا واسعًا، بل رأيته يستمر في أغلب جوانبه بصورة واحدة؛ فدائمًا مديح وهجاء وفخر ووصف وغزل. وجعلني ذلك ألتفت إلى حقيقة مهمة، وهي أن التطور في شعرنا العربي إنما كان في الصناعة نفسها، أي في الفن الخالص وما يرتبط به من مصطلحات وتقاليد. حينئذ رأيت أن أضع له مذاهب على أساس صناعته والفن فيه.
ونظرت في النقد العربي القديم، فإذا النقاد يقسمون الشعراء قسمين كبيرين: قسمًا سموه أصحاب الطبع، وقسمًا سموه أصحاب الصنعة. أما الأولون فهم الذين يسيرون وفق عمود الشعر الموروث، فلا ينمقون ولا يتأنقون ولا يتكلفون ولا يُغْربون. وأما الأخيرون فهم الذين كانوا ينحرفون عن هذا العمود إلى التنميق والتأنق، أو إلى الإغراب والتكلف. ورأيت أن هذا التقسيم لا يقوم على أساس صحيح، وما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن؟ إن كل شعر متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع.