وهل هناك شعر لا يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه وموضوعاته ومعانيه؟ إن من يرجع إلى العصر الجاهلي يجد الشعر خاضعًا لتقاليد ورسوم كثيرة يتوارثها الشعراء؛ سواء في ألفاظه ومعانيه، أم في أوزانه وقوافيه، بحيث لا يستطيع مطلقًا أن يذعن لفكرة الطبع وما يُطوى فيها من أن الشعر فطرة وإلهام؛ فقد كان الجاهليون يصنعون شعرهم صناعة ويعملونه عملًا، وهم في أثناء هذه الصناعة والعمل يخضعون لمصطلحات ورسوم كثيرة.
ونحن لا ننكر أن الشعر في الأصل موهبة؛ غير أن هذه الموهبة لا تلبث أن تتحول عند صاحبها إلى ممارسة ودراسة طويلة لتقاليد ومصطلحات موروثة في تاريخ الفن، وهو يتقيد بهذه التقاليد والمصطلحات فيما يصنعه ويعمله تقيدًا شديدًا. وكان العرب القدماء أنفسهم يسمون شعرهم صناعة، ويصفونه بأوصاف الصناعات، وكذلك كان الشأن عند اليونان وعند الأمم الحديثة جميعًا؛ ومن أجل ذلك كان النقاد في الأمم الغربية يقرنون الشعر إلى النحت والتصوير والرقص والموسيقى؛ فمثله مثل هذه الأعمال الفنية يقوم على جهد وكدح. وهذا كله دفعني إلى أن أرفض فكرة تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، حتى في العصر الجاهلي، إذ كان الشعراء جميعًا أصحاب صنعة وجهد وتكلف؛ فقد حدثنا الرواة أن منهم من كان ينظم القصيدة في حول كامل. وليس من شك في أن من يتابع الشاعر الجاهلي يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يقبل على صناعته إقبال الصانع على حرفته؛ فهو يوفر فيها رسومًا وتقاليد كثيرة، وهذا نفسه هو الذي جعلني أتخذ كلمة الصنعة التي استخدمها النقاد القدماء للدلالة على أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي، واتخذت زهيرًا رمزًا لهذا المذهب، ووصفت فنه في شعره ووضحت ما يرتبط به في صناعته من قواعد وتقاليد. واستمرت صورة هذا المذهب عند زهير مسيطرة مع ضعف بهذه الصورة من الفن والصناعة الشعرَ الغنائِيَّ الخالص الذي كان يصحب بالعزف والضرب على الأدوات الموسيقية من العصر الجاهلي إلى العصر