العباسي، فإن أصحابه لا يخرون به -عادة- إلى زخرف وتنميق.
ولما انتقلت إلى العصر العباسي وجدت صناعة الشعر التقليدي شعر المديح والهجاء ترقى وتتحضر؛ فقد دارت عجلة الزمن، وانتقل صانع الشعر من البادية إلى المدينة، ودخلت في الشعر العربي في أثناء ذلك عناصر جديدة من الحضارة والجنس والثقافة، وكان المذهب القديم مذهب زهير أو مذهب الصنعة والصانعين قائمًا؛ بينما ظهر بجانبه مذهب جديد كان يعتمد على الزخرف والزينة؛ فالشعر -في رأي أصحابه- حَلْيٌ وترصيع وبديع. ومَثَّلَ هذا المذهب الجيد في القرنين الثالث والثالث مسلم بن الوليد، ثم أبو تمام وابن المعتز؛ بينما مَثَّلَ المذهب القديم بشار وأبو نواس ثم البحتري وابن الرومي. ولما خرجت إلى القرن الرابع رأيت مذهبًا جديدًا يعم فن الشعر وصناعته، وهو مذهب كان يقوم على إعادة الصور المطروقة والمعاني الموروثة بأساليب من اللف والدوران وإتيان المعنى من بعيد، ثم يحاول الشاعر بعد ذلك أن يضيف تعقيدًا إلى أساليب الزخرفة والتنميق السابقة أو يضيف تعبيرات وتراكيب شاذة من نحو غريب، أو تشيع، أو تصوف، أو تفلسف، وما لبث أبو العلاء أن أوفى بهذا المذهب إلى غايته من التعقيد الشديد في لغته وأوزانه وما كان يتصنع له من لوازم مختلفة عرضنا لها في موضعها من هذا الكتاب.
تردَّدتُ ماذا أسمي هذين المذهبين العباسيين بالقياس إلى مذهب الصنعة القديم؟ وأخيرًا رأيت أن أسميهما على التعاقب باسم مذهبي التَّصنيع والتصنُّع. والتصنيع في اللغة الزخرف والتنميق. أما التصنع فهو التطرف في التكلف وما ينطوي في ذلك من تعمّل وتعقيد، وكان قد بدا لي أن أسمي هذه المذاهب على الترتيب بأسماء الصنعة والزخرف والتعقيد؛ ولكني آثرت التسمية الأولى لأن تشابك الألفاظ فيها يدل على حقيقة دقيقة، وهي أن المذاهب الفنية في صناعة الشعر العربي لا يفترق بعضها عن بعض مفارق واسعة في المعاني والموضوعات والأوزان والقوافي؛ إنما تستقر مفارقها في الصياغة والأسلوب.
هذه هي المراحل التي مر بها الفن أو مرت بها الصناعة في شعرنا العربي.