فقد بدأ بمذهب الصنعة، ثم انتقل إلى مذهب التصنيع، ثم انتهى أخيرًا إلى مذهب التصنع. وجَمد الشعراء عند هذه المذاهب ولم يتجاوزوها إلى مذهب جديد. وكأنما جفَّت منابع القوة الدافعة التي كانت تُحدث المذاهب في الشعر والفن. وبحثت هذه المذاهب في الأندلس ومصر؛ فإذا شخصية مصر أتم وضوحًا في تاريخ الشعر العربي من شخصية الأندلس على نحو ما سيراه القارئ في فصلها الخاص.
وأنا لا أنكر أنه صادفني جوانبُ ماكرة خلال تأليف هذا الكتاب لاتساع الموضوع وتشعبه؛ فقد حاولت أن أرسم صورة واضحة لمذاهب الشعر العربي من أقدم عصوره إلى العصر الحديث، واضطرني ذلك إلى استخدام طائفة من المصطلحات اتخذتها لتؤدي وصف هذه المذاهب، وهي موضوعة في ثنايا الكتاب بين أقواس صغيرة.
وهذه الدراسة المستفيضة لفن الشعر وصناعته عند العرب، ولما مر به من أطوار وأحداث في عصوره وأقاليمه المختلفة جعلتني أتصل بمراجع كثيرة من دواوين الشعراء وما كتبه نقاد العرب عن فن الشعر عندهم وصناعته، وكذلك رجعت إلى كل ما وجدته يتصل بالشعر والشعراء من كتب أدب عامة أو كتب تاريخية وجغرافية، ورجعت أيضًا إلى طائفة من كتب المستشرقين وكتب النقد الأدبي الحديثة عند الغربيين. وإني لأعترف بأن كتبنا القديمة غنية غنى وافرًا بالنصوص التي تفسر ظروف الحياة الفنية تفسيرًا وافيًا. وأنا لا أزعم أني كشفت عن جميع جوانب الفن والصناعة في مذاهب الشعر العربي ومناهجه؛ وإنما حاولت ذلك ودللت عليه، غير منكر ما قد يكون في هذا البحث الجديد من إثارة إبهام أو غموض. وعلى الله قصد السبيل.