لعل من الغريب أن هذه الغارات والفتوحات الكثيرة التي أصابت مصر حتى عهد الفتوح الإسلامية لم تضعف شخصيتها، فإن مما يلاحظ على مصر أنها أمة محافظة، تعتد بجميع تقاليدها وخصالها، بحيث لا يمكن أن تندمج في مغتصبيها أو تفنى في فاتحيها، فعلى الرغم من دخول عناصر الهكسوس والآشوريين والفرس واليونان والرومان فيها ظلت حافظة لشخصيتها وخصائصها الجوهرية، حتى بعد دخول العرب أنفسهم، فإنهم لم يستطيعوا أن ينفوا عنها شيئًا من صفاتها، بل رأيناهم هم يغرقون في جداولها، ويذوبون في نهرها الأكبر نهر النيل، وكأنما كان اتساع هذا النهر من قديم رمزًا إلى أن مصر لا يمكن أن تفنى في غيرها، بل غيرها هو الذي يفنى في مجراها ومجرى نهرها العظيم.
ومن يرجع إلى الحياة السياسية لمصر منذ فجر تاريخها يراها دائمًا أمة مقاومة لا تخضع للأجانب، أما ما قد يبدو من كثرة الفاتحين لها والمغيرين عليها من أنها تفتح صدرها لأعدائها من الأجانب فغير صحيح ولا يتفق وحقائقها التاريخية. وذلك أننا نراها تقاوم دائمًا، قاومت الهكسوس وطردتهم منها، وقاومت بعدهم الآشوريين والفرس والرومان، وكان لها مع الأخيرين ثورات عدة ذبح فيها الرومان كثيرين من أهلها١. وحتى العرب الذين أنقذوهم من نير الرومان
١ انظر كتاب: فتح العرب لمصر، تأليف: بتلر، وترجمة: فريد أبي حديد، فقد عرض في ص٧٨ للفكرة التي تذهب إلى أن مصر ترحب بالفاتحين ودحضها أي دحض.