لم يكن ابن الرومي يذهب مذهب البحتري في أن الشعر لا يحتاج إلى فلسفة ومنطق؛ بل كان يرى أنهما أصلان مهمان في حرفته؛ فهو يعتمد عليهما في تفكيره، وهو يستخدمها في صياغته، حتى لتتخذ أبياته في كثير من نماذجه شكل أقيسة دقيقة؛ فهو يقدم لها بمقدمات ويخرج منها بنتائج، وكأنه رجل من رجال المنطق، بل هو رجل من رجال الفكر الحديث، وهو لذلك يأبى إلا أن يخرج نماذجه إخراجًا حديثًا، فيه فكر، وفيه فلسفة، وفيه منطق، وفيه تلك الصفات العقلية الجديدة التي يمتاز بها شعراء العصر العباسي من أسلافهم القدماء، واقرأ له هذه الأبيات.
لما تؤذنُ الدنيا به من صُرُوفها ... يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولدُ
وإلا فما يُبْكيه منها وإنها ... لأفسحُ مما كان فيه وأرغدُ
إذا أبصرَ الدنيا استهلَّ كأنَّه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدَّدُ
وللنفس أحوالٌ تظل كأنها ... تشاهدُ فيها كل غيب سيشهدُ
فإنك تحس فيها أثر المنطق واضحًا، وهذا أهم ما يفرق بينه وبين البحتري في صناعته إذا كان للمنطق تأثير واضح في صياغة شعره وتنسيق أفكاره. ويمكننا أن نخلص ذلك في جانبين: الجانب الأول ما يمتاز به شعر ابن الرومي من الوضوح الذي جعله يستقصي أطراف الفكرة حتى تتضح من جميع جوانبها؛ فهو رجل منطق، ورجال المنطق يعشقون البيان الواضح، ولعله من أجل ذلك كان شعره يمتاز بالطول فهو يستقصي ويتعمق في عرض أفكاره، حتى تبرز بروزًا دقيقًا. أما الجانب الثاني فهو ما يمتاز به شعره من التنسيق الشديد والربط الوثيق بين أفكاره. يقول عباس العقاد: "العلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه وشدة استقصائه للمعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج.