للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عن سنة النَّظَّامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتًا متفرقة يضمها سمط واحد قلَّ أن يطَّرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقل أن يتوالى فيه النَّسق تواليًا يستعصي على التقديم والتأخير والتبديل والتحوير؛ فخالف ابن الرومي هذه السُّنَّة وجعل القصيدة كلامًا واحدًا لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه؛ فقصائده موضوعات كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض ولا تنتهي حتى ينتهي مؤدَّاها، وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو فسد في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة، ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببًا من أسباب الإطالة؛ ولكنه لم يكن كل السبب؛ لأن ابن الرومي كان يطيل القصائد حفاوة بالممدوحين وإكبارًا لشأنهم وإظهارًا لعنايته بإرضائهم"١

ونحن إذا سلمنا للعقاد بأن المديح كان سببًا من أسباب الإطالة عند ابن الرومي؛ فإننا نتردد في أن نسلِّم بأن الاستقصاء هو الآخر كان سببًا فيها؛ لأنه ليس شيئًا خارجًا عنها، بل هو نفس ظاهرة الإطالة، فابن الرومي يطيل، وبعبارة أخرى يستقصي المعاني والأفكار؛ على أن السبب الآخر الذي ذكره العقاد وهو المديح لا يطرد في جميع قصائد ابن الرومي؛ لأنها لم تُبْنَ كلها على المديح. وأكبر الظن أن السبب الأهم هو ما قلناه من أن ابن الرومي كان يستخدم الصياغة المنطقية، في قصائده، فشغف بهذا الطول الذي هو من أخص صفات من يريدون التعبير المنطقي الواضح. ومهما يكن فإن ثقافة ابن الرومي قد أحدثت في شعره هذا النوع الغريب من الطول في نماذجه؛ فإن الشعر عنده لم يعد تعبير العاطفة فقط، بل أصبح تعبير العقل قبل أن يكون تعبير العاطفة، وبذلك عمَّه غير قليل من التحليل والتفصيل، والبحث والتحقيق.

لم يعد الشعر عملًا عاطفيًّا خالصًا، بل أصحب عملًا عقليًّا، له خصائص الأعمال العقلية وصفاتها، وبذلك أصبح في كثير من جوانبه -كما تصوِّره قصائد ابن الرومي- يشبه الأعمال النثرية في وضوحه من جهة، وفي عدم اهتمام الشاعر بالعبارة في سبيل الوضوح من جهة أخرى؛ وبذلك أصبحت القصائد تشبه إلى


١ابن الرومي: لعباس العقاد، ص٣٠٨.

<<  <   >  >>