"نظرنا في الشعر القديم والحديث فوجدنا المعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض".
الجاحظ
١- التَّصنعُ في الحضارةِ العربيةِ:
لا يمضي من يدرس الشعر العربي بعد القرن الثالث حتى يحس بظاهرة واضحة تمتد في هذا الشعر وتسيطر عليه، وهي ظاهرة التصنع والتكلف الشديد، والشعر العربي لا يحيل بهذه الظاهرة، بل هو يرينا تطور الفن مع تطور الحضارات وما يصيب الناس من ترف عقلي يؤدي بهم إلى ألوان من التعقيد في صنع النماذج الفنية. نرى ذلك في القديم والحديث، نراه عند اليونان في الإسكندرية في أثناء القرنين الرابع والخامس الميلادي؛ إذ أصبح الشعر مجموعة من التعقيدات والشكليات مستجيبًا لما أصاب الحضارة اليونانية من هرم وشيخوخة، ونراه عند الغربيين المحدثين؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر تتعقد الحضارة الغربية، ويترف العقل الغربي، ويظهر المذهب الرمزي وما يطوى فيه من فنون تكلف وتعقيد.
وهذا نفسه هو ما نحسه إزاء الشعر العربي والحضارة العربية بعد القرن الثالث للهجرة، إذ نرى هذه الحضارة تعقم ولا تأتي بجديد إلا اهتمامًا بالشكليات وتعقيدًا في شئون الحياة؛ فالدولة تضعف ولكن تكثر الألقاب، ألقاب الملوك والأمراء وكبار أصحاب المناصب١، وهي كثرة لا تدل على نمو سياسي؛ إنما تدل على أن الناس أصبحوا يعنون بالشكل أكثر مما يعنون بالحقيقة نفسها. وأنت
١ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع: لآدم ميتز ١/ ٢٣١.