رياضُ بنفسج خَضِلٍ نداهُ ... تفتَّح نورُه بين الأقاحي
وهي رياض ذات صبغ واحد؛ ولكن كأنما هذا الصبغ قد جمع من كل ربيع، ففيه تنوع واسع لا يمكن شيء أن يحكيه إلا أن يعود الإنسان إلى ديوان ابن المعتز، ويرى كيف استخدم صبغ التشبيه، واستطاع أن يخالف بين أشكاله وأوضاعه، كما يخالف أصحاب فن التجميل بين صور الشعر الأسود مثلا ورسومه، فإذا هم يستخرجون منه أشكالًا وأوضاعًا كثيرة، بما يسدلونه على الجبهة، أو بما يرفعونه إلى الرأس، أو بتقسيمه أقسامًا متساوية، أو غير متساوية.
والحق أن أصحاب التصنيع، في القرن الثالث استطاعوا أن يرتفعوا إلى مراقي القمة في الزخرف والتنميق. وهل نسينا ذلك الزخرف العقلي الذي أحدثه أبو تمام وما استطاع أن يشفعه به من تنويع في الزخرف الحسي؟ وهذا ابن المعتز يأخذ زخرف التشبيه وينوع فيه تنويعًا واسعًا يقصر التعبير عن تصويره.
إن التشبيه لون مفرد بل هو صبغ من أصباغ لون مفرد، هو لون التصوير، وهو صبغ حسي لم يشفع بثقافة عميقة ولا بفلسفة، ومع ذلك استطاع ابن المعتز أن يستخرج منه أوضاعًا وأشكالًا كثيرة؛ بحيث لا نجمع طائفة منها حتى تخرج لنا هذه اللوحات الفنية المحيِّرة، وكأن الإنسان يعيش في متحف للصور والرسوم، ولكن أي صور ورسوم؟ إنها صور ورسوم ما تزال تعزف عزفًا غريبًا!
وارجع إلى أبي تمام فسترى هذه الصور والرسوم تعي الموسيقى، كما تعي الفلسفة والثقافة، وكل ذلك يتنقل فيه الفكر كما يتنقل بين قطع الرياض في الطبيعة. على أن هذه الروعة في التصنيع وما صحبها من بهجة في التلوين والتصوير سرعان ما تنحسر ظلالها عن الشعر العربي في القرون التالية.