وتتجمع عاطفته وبراعته في التصوير حين يصف بعض المغنيات، وقصيدته في وحيد المغنية إحدى درره. وطبيعي والقدر يلاحقه في خطف أبنائه ويجرعه غصص الألم أن يجيد في فن الرثاء، ومرثيته لابنه محمد من فرائد الشعر العربي، وله في رثاء البصرة حين غلب الزنج عليها وفتكوا بنسائها وأطفالها قصيدة بديعة. وهو بحق من أوائل من نظموا في المناظرات الشعرية كما في مناظرته بين النرجس والورد، والقلم والسيف، وكان ينظم في مدح الشيء وذمه، فيمدح الحقد في قصيدة ويذمه في أخرى، ولعله في ذلك كان يتأثر بالأدب الفارسي.
وفي شعره نزعة شعبية واضحة إذ كان يصف المطاعم وحياة الناس في بغداد وما يطعمونه ويلبسونه حتى الأَرْدية المرقَّعة، ويعرض علينا صور طبقاتهم الدنيا من خبَّازين وحمَّالين وشوَّائين وشحَّاذين. ومن هنا كانت تكثر في شعره ألفاظ العامة، فهو ليس شاعر الملوك والقصور من مثل البحتري، وإنما هو شاعر شعبي، يعرض علينا بغداد في حياتها المتواضعة وصورها الشعبية.
وكل ذلك من آثار حياته التي عاشها؛ فهي حياة بائسة في أكثر جوانبها، حياة لا تعرف البهجة ولا التأنق في المعاش، ولعل ذلك ما جعله يقف بشعره عند ذوق الصانعين؛ فهو لا ينمق فيه، بل يترك نفسه على سجيتها ليصور أحاسيسه وعواطفه الصادقة. وكان فكره الدقيق وما انطبع في عقله من طوابع الثقافة والفلسفة حريًا به أن يصبح من أصحاب مذهب التصنيع، ومن ينظر إلى هذا الجانب عنده يخيل إليه كأنه من طراز أبي تمام، وخاصة حين يقرأ له بعض أبيات مفردة أو قطعًا قصيرة مما تناقلته عنه كتب الأدب؛ ولكن من يقرأ قصائده يعرف أنه ليس من أصحاب هذا المذهب، مذهب التصنيع؛ إذ لم يكن يُعْنى بالزخرف لا في شعره ولا في حياته إلا قليلًا، وكأنه كان يأتي بما يأتي به من هذا الزخرف أحيانًا مجاراة للعصر، وحقًا شغف شغفًا شديدًا بالتصوير، ولكن هذا الشغف لا يخرجه من دائرة الصانعين، كما لا تخرجه من دائرتهم ثقافته الفلسفية، وما يمتاز به من فكر عميق.