للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عينه على جار له كان نازلًا بإزائه، وكان أحدب، يقعد كل يوم على بابه فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه، وقال لا يفتح أحد الباب"١ وروى ابن رشيق "أن أحد إخوانه من الأمراء افتقده فأُعْلِمَ بحاله من الطيرة؛ فبعث إليه خادمًا اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك، فأنت ناقص ومنكوس، اسمك: لا بقاء"٢ وروى صاحب معاهد التنصيص أن بعض أصحابه أرسل إليه يومًا بغلام حسن الصورة اسمه حسن، فطرق الباب عليه، قال: من؟ قال: حسن، فتفاءل به وخرج، وإذا على داره حانوت خياط قد صلب درفتين كهيئة اللام ألف، ورأى تحتها نَوىَ تمرٍ، فتطيَّر، وقال بأن هذا يشير بأن: لا تمر، ورجع ولم يذهب معه.

"وكان الأخفش علي بن سليمان النَّحْوي قد تولَّع به؛ فكان يقرع عليه الباب إذا أصبح، فإذا قال: من القارع؟ قال: مرَّة بن حنظلة، ونحو ذلك من الأسماء التي يتطير بذكرها، فيحبس نفسه في بيته ولا يخرج يومه أجمع"٣ وليس من ريب في أن هذا المزاج المعتل الحاد كان يؤثر في شعره بجانب أصله وثقافته، وطبيعي وقد امتلأ حقدًا على معاصريه من الحدب وأشباههم؛ فكلهم أحدب في رأيه، أن يكون الهجاء أهم موضوعات شعره. وكان لديه قدرة بارعة على تصوير الأحاسيس، فصور الطبيعة ومباهجها في الربيع وغير الربيع تصويرًا رائعًا، كما صور الأطعمة تصويرًا يتناسب مع شرهه لها، وكان لا يترك منظرًا في الطريق من مناظرها دون أن يرسمه بريشته على نحو ما صنع في تصويره لمنظر الخباز وهو يدحو الرقاق٤. وتتضح في غزله العاطفة الرقيقة، وهو يبدع في كثير منه إبداعًا منقطع النظير، وله قصيدة طويلة وصف في مطلعها المرأة بطريقة مبتكرة؛ إذ نقل في وصفها صورة البستان بفواكهه وثماره ومطلعها:

أجْنَتْ لك الوَجْد أغصانٌ وكثبانُ ... فيهنَّ نوعان: تفاحٌ ورمانُ


١ زهر الآداب ٢/ ١٧٧.
٢ العمدة، لابن رشيق ١/ ٤٠.
٣ معاهد التنصيص.
٤ مختار الديوان، رقم ٣٣٢.

<<  <   >  >>