للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نجدهم يثورون عليهم١، واستمرت ثوراتهم لا تهدأ حتى تحول جمهورهم إلى الإسلام. وقد تكون الدولة الأجنبية الوحيدة التي لم يقاوموها هي دولة البطالسة، غير أن ذلك يرجع إلى أنهم لم يكونوا يعدونهم أجانب عنهم، فقد مصَّروهم تمصيرًا نهائيًّا. وهم أنفسهم لم يهدءوا في عصر العرب إلا منذ الدولة الفاطمية لا لسبب إلا لأن الفاطميين مصَّروا أنفسهم إذ راحوا يحتفلون بأعياد الشعب في مظاهر كبيرة تشبه أن تكون "كرنفالات" عظيمة ومن أجل ذلك أحبهم المصريون حتى إذا اغتصب الملك منهم صلاح الدين وجدنا ابن مماتي -على الرغم من موقف صلاح الدين من الصليبين- يؤلف كتابه: الفاشوش في حكم قره قوش" يهاجم فيه قره قوش المستشار الأول لصلاح الدين، وكان يخلفه أحيانًا على حكم المصريين في أثناء حروبه، وكانت فيه جوانب غفلة، فاستغلَّها ابن مماتي وقصَّها باللغة العامية في صور هزلية مضحكة، وسخر فيها من أحكامه وهي سخرية ماكرة، تطوي في داخلها سخرية خبيثة بحكم صلاح الدين ودولته الجديدة. وتستمر هذه الروح الثائرة في المصريين حتى نلتقي بها في صورة مجسمة في أثناء غزو نابليون لمصر، وما حوادث الثورة المصرية الأخيرة منا ببعيدة.

وإذن فالحياة السياسية لمصر تشهد بأنها أمة تشعر بشخصيتها شعورًا واضحًا، وهي لذلك لا تقهر، بل تستمر تقاوم، فإما أن يطرد الفاتح الأجنبي وإما أن يتمصَّر، ومعنى ذلك أن مصر ليست ضعيفة الشخصية، ولذلك كانت تتراءى لنا هذه الشخصية في جميع مظاهر حياتها في أثناء العصور الإسلامية.

ومن يرجع إليها في مفتتح هذه العصور يجد فريقًا من أهلها يفزعون إلى التصوف منذ عام٢ ٢٠٠هـ. وقد أنجبت مصر في القرن الثالث أهم متصوف في عصره، وهو ذو النون المصري المتوفى عام ٢٤٥ للهجرة وعليه تتلمذ كثير من أساتذة التصوف في المشرق٣. وظهر التصوف في مصر إنما كان استجابة لتراثها القديم من


١ انظر stanley, lane-poole,A history of Egypt in the middle ages, pp. ٢٨, ٣٢.
٢ الولاة والقضاة: للكندي ص١٦٢ وانظر أيضًا ص٤٤٠.
٣ انظر رسالة القشيري "طبع مصر" من صفحة ١٤ إلى صفحة ٢٣.

<<  <   >  >>