في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهم في المخايل وُرْق الأصائل، فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى، وغذاه من تحته الثَّرى، فبينما مصر لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء".
وسكن هذه الزروع والوديان الخصيبة منذ الأبد السحيق أمشاج من إفريقيين وآسيويين، وسرعان ما اندمج بعضهم في بعض وألفوا أمة واحدة لها مشخصاتها ومقوماتها في اللغة والدين والتقليد. واستطاعت هذه الأمة أن تبني إمبراطورية كبيرة في الشرق القديم، إذ امتد سلطانها إلى الفرات شرقًا وآسيا الصغرى شمالا وبلاد البُنْت والنوبة جنوبًا. واستمرت هذه الإمبراطورية أحقابًا متطاولة، ثم ضعف شأنها؛ لكثرة الإغارات عليها والحروب بينها وبين جيرانها.
أغار عليها في أول الأمر الهكسوس، ثم وقعت في حروب مع الحيثيين، ودخلها الآشوريون، وفتحها الفرس في عهد قمبيز عام ٥٢٥ ق. م. واستمرت تابعة لهم حتى استولى عليها الإسكندر المقدوني عام ٣٣٣ ق. م. وأسس بها مدينة الإسكندرية. ولما توفي الإسكندر واقتسم قوَّاده دولته ظفر بمصر بطليموس، فاستقل بها، وأسس هو وأبناؤه فيها دولة إغريقية، كان لها شأن عظيم في العصور القديمة، وأصبحت الإسكندرية في عهدهم من أعظم مدن بحر الروم إن لم تكن أعظمها، وقد بنوا فيها منارة الإسكندرية المشهورة كما بنوا دارًا كبيرة للكتب وأخرى سموها دار المتحف وكانت بمثابة جامعة تدرس فيها العلوم والفنون المختلفة من فلسفة وطب وهندسة. ويذهب البطالسة وتدخل مصر في حظيرة الإمبراطورية الرومانية عام ٣١م. وثارت مصر على الرومان كثيرًا.
وأخيرًا يقبل العرب بأعلامهم من الفرما تحت قيادة القائد المظفر عمرو بن العاص فيفتحونها عام "٦٤٠م- ١٩هـ" ويفتحون في تاريخها صفحة الإسلام والعروبة، وقد اختطَّ لهم عمرو مدينة الفسطاط حسب قبائلهم. ثم أقبلت بعد ذلك قبائل عربية، فنزلت ريف مصر وسَعَتْ -بكل ما يمكنها- إلى تعريب مصر دينيًّا ولغويًّا، بحيث لا نصل إلى أواخر القرن الرابع الهجري حتى تكون جمهرة المصريين دخلت في الإسلام وحتى نجد القبط يهجرون لغتهم إلى اللغة العربية١.
١ انظر في ذلك كتاب: سير البطاركة: لساويرس "طبع بيروت" ص٦، الذي ألَّفَهُ بعد عام ٤٠٠هـ، بقليل إذ يذكر أن اللسان القبطي كاد ينعدم من ديار مصر وأن اللسان العربي هو الذي كان معروفًا وشائعًا في أهل هذا الزمان.