للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مجرى الأمثال، قال في مقدمتها: "وهذا الشعر مع تميُّزه وبراعته وتبريزه في صناعته له في الأمثال خصوصًا مذهب يسبق به أمثاله"١، وهذا المذهب الذي يشير إليه الصاحب في عمل حِكَمِه وصياغة أمثاله هو الذي يلفتنا من قوله؛ فالصاحب يحس بأن المتنبي له مذهب خاص في صناعة الحكم والأمثال، وهذا المذهب ليس شيئًا خاصًّا بطريقة الصناعة، وإنما هو قائم في الصناعة كلها، فمِنْ قبلِهِ لم يكن الشعراء يعدلون بشعرهم إلى كثرة الحكم والأمثال التي نجدها عنده على غير الإلف والعادة؛ إذ يعتمد عليها في عمله اعتماد أصحاب المذاهب -كما لاحظ الصاحب- ولم يكن المتنبي يأتي بهذه الحكم والأمثال من تجاربه الخاصة فحسب، بل كان أيضًا يقترض أطرافًا منها من الفلسفة، وتنبَّه لذلك معاصروه، فكتب الحاتمي رسالة يبين فيها كيف استغل صاحبنا حكم أرسطو وكيف صاغها شعرًا، فمن ذلك قوله:

يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم ... وَتَأبى الطِباعُ عَلى الناقِلِ

وأصله عند أرسطو طاليس: "روم نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع"٢

ومن ذلك قوله:

لَعَلَّ عُتْبَكَ مَحمودٌ عَواقِبُهُ ... فَرُبَّما صَحَّتِ الأَجسامُ بِالعِلَلِ

وأصله عند أرسططاليس: "قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والفَصْد اللَّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها٣، ومن ذلك قوله:

وَمَن يُنفِقِ السَّاعاتِ في جَمْعِ مالِهِ ... مخافةَ فَقْرٍ فَالَّذي فَعل الفقرُ

وأصله عند أرسططاليس: "من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه للعدم"٤. وعلى هذه الشاكلة أخذ الحاتمي يحقق ترجمة هذه الحكم اليونانية إلى الشعر العربي عند المتنبي حتى بلغ بها نحو مائة وعشرين حكمة.

ومن يقرأ في ديوان المتنبي يحس إحساسًا واضحًا بأن الشعر كان يعتمد


١ "ذكرى أبي الطيب" لعبد الوهاب عزام ص٤١٧.
٢ الرسالة الحاتمية من مجموعة التحفة البهية ص١٤٥.
٣ نفس المصدر ص١٤٧
٤ نفس المصدر ص١٥٠.

<<  <   >  >>