للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عنده على العقل المتفلسف والصياغة الفلسفية، وقد ذهب يستخدم هذه الحكم، مضيفًا إليها ضروبًا من القافية المنطقية الدقيقة حتى ينال ما يريده من الدوي العالي:

وتركك في الدنيا دويًّا كأنما ... تداولُ سَمْع المرء أنْمُلُهُ العشرُ

لقد كان هذا التصنع للفلسفة والمنطق يحدث له ذلك الدَّوي والضجيج الذي يريده، وبدأ -كما رأينا- فطرز شعره بأمثال الفلسفة اليونانية، ثم أخذ ينشر أسماء أصحابها في شعره من مثل أرسططاليس وبطليموس والإسكندر الأفروديسي على نحو ما يلقانا في رائيته التي مدح بها ابن العميد. كما أخذ يستعير ألفاظها واصطلاحاتها، كأن يستعير الحركة والسكون في قوله:

تناهى سكونُ الحسنِ في حركاتها ... وليس لراءٍ وجهها لم يَمُتْ عُذْرُ

أو يستعير كلمة القياس الفاسد في قوله:

بشر تصوَّر غايةً في آية ... تنفي الظنونَ وتفسد التقييسا

أو يشير إلى بعض أفكار المتفلسفة وآرائهم في مثل قوله:

تخالف الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم ... إلا عَلَى شجبٍ والخلفُ في الشَّجَبِ١

فقيل تخلدُ نفس المرءِ باقيةً ... وقيل تَشْرك جسم المرءِ في العطَبِ

وكأنه كان يشك في الروح وخلودها. ونراه يقول:

وَتَرى الفُتُوَّةَ وَالمُرُوَّةَ وَالأُبُـ ... وَةَ فِيَّ كُلُّ مَليحَةٍ ضَرّاتِها

هُنَّ الثَلاثُ المانِعاتي لَذَّتي ... في خَلوَتي لا الخَوفُ مِن تَبِعاتِها

يقول العُكْبَري في التعليق على هذين البيتين: إنه يشير بذلك إلى قول المتفلسفة: "إن النفوس تركت الشهوات البهيمية طبعًا لا خوفًا"٢، وقد نراه يعتد بمذهب السوفسطائية في مثل قوله:

هَوِّن عَلى بَصَرٍ ما شَقَّ مَنظَرُهُ ... فَإِنَّما يَقَظاتُ العَينِ كَالْحُلمِ

فإن السوفسطائيين لا يؤمنون بوجود المحسوسات، وذهب صاحب "سرح العيون" إلى أنه كان على مذهب الهوائية أو المادية لقوله:

تَبخَلُ أَيدينا بِأَرْوَاحِنا ... عَلى زَمانٍ هِيَ مِن كَسْبِهِ


١ الشجب: الهلاك والموت.
٢ التبيان ٢/ ٢٢٨.

<<  <   >  >>