للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأي طرافة وبراعة في التدبيج تبلغ هذا التصوير وما به من خيال وتلوين؛ فتلك صاحبته تخلع صبغ الليل بنورها، وهو صبغ تجري فيه خطوط من البياض والسواد، وانظر إلى قوله:

خضبتْ خدَّها إلى لؤلؤ العقـ ... ـدِ دمًا أن رأتْ شواتي خضيبا١

يقول: إن صاحبته قد خضبت خدها بالدمع إذا رأته قد اشتعل رأسه شيبًا؛ ولكنه لم يكتفِ بهذا التصوير والتدبيج، وكأني به أراد أن يجعلنا نشاهد منظر هذه الدموع وهي تتساقط؛ فأضاف الوضع وقال: إلى لؤلؤ العقد، وبذلك جعلنا نرى الصورة رؤية كأنها حقيقية فالدموع تتناثر على لؤلؤ العقد وتختلط بحباته وألوانه.

والحق أن أبا تمام كان يحسن هذا الصِّبْغ في تصويره إحسانًا شديدًا، وهو إحسان ينسينا مسلم بن الوليد؛ بل هو ينسينا ابن الرومي، وكان يعنى بالتصوير في شعره؛ إلا أنها عناية يقلد فيها أبا تمام أستاذه في هذا الفن، وكان يستعير منه هذا الصبغ من التدبيج، كما كان يستعير منه صبغين آخرين، هما: التجسيم والتشخيص. أما التجسيم فقد ملأ به أبو تمام شعره؛ إذ نراه يجسِّم المعاني في صور مادية حسية حتى تثبت في نفوسنا كأن يقول:

راحتْ غواني الحيّ عنك غوانيا ... يلبسن نأيًا تارةً وصدودا

أحلى الرجال من النساء مواقعًا ... من كان أشبههم بهن خدودا

فقد جسَّم النأي والصدود في هذه الثياب الغريبة غرابة ثوب الزمن في قوله لبعض ممدوحيه:

ومن زمنٍ ألبستنيه كأنَّهُ ... إذا ذُكرتْ أيامُهُ زمنُ الوردِ

وهي كله أثواب غريبة غرابة ذلك الشُّنُف من مآثر ممدوحه إذ يقول:

حتى لو أن الليالي صوِّرت لغدت ... أفعاله الغرُّ في آذانها شُنُفا٢

وصاغ أبو تمام من هذا التجسيم وشيًا كثيرًا في أشعاره بل صاغ بدعًا وخيالًا رائعًا على شاكلة قوله:


١ الشواة: جلدة الرأس. خضيبًا: مصبوغة بالحناء من أجل الشيب.
٢ الشنف: القرط.

<<  <   >  >>