للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وركب يساقون الرِّكابِ زُجاجةً ... من السَّيرِ لم تقصد لها كف قاطبِ١

فقد أكلوا منها الغوارب بالسُّرى ... وصارت لها أشباحهم كالغوارب٢

وكان الشعراء منذ الجاهلية يتحدثون كثيرًا، عما تصنعه كثرة السُّرى بإبلهم من هزال ونحول حتى ليقولون إن سنامها تآكل. ولم يكد يلمُّ أبو تمام بهذا المعنى حتى أخرجه في تلك الصورة الخيالية المبعدة في الخيال؛ فإذا الراكبون يسقون إبلهم خمرًا من السير لم تمزج بماء، وفي أثناء ذلك تذوب أسنمتها ويصيبهم من الضمور ما يجعل الناظر من بعيد، يظنهم أسنمتها الحقيقية، ويمضي في القصيدة يمدح أبا دُلف العجلي؛ فيقول مضيفًا وشيًا واضحًا من التشخيص:

تكاد مغانيه تهشُّ عراصُها ... فتركب من شوقٍ إلى كل راكبِ

يرى أقبحَ الأشياءِ أوبةَ آملٍ ... كستة يدُ المأمول حُلَّة خائبِ

فالمغاني تهش سرورًا للنازلين؛ بل لكأنها تريد أن تقصد العُفاة لا أن تنتظرهم حتى يقصدوها. أما هو فلا يرى قبحًا أقبح من ثياب الخيبة والفشل. والقصيدة جميعها صور من هذا الطراز. ولا يزال يفتنُّ بهذا الخيال الرائع، الذي نتنقل في مباهجه وخاصة حين يصور الطبيعة، وقصيدته:

رقَّتْ حواشي الدهرِ فهي تَمَرْمرُ ... وغدا الثَّرى في حليه يتكسَّرُ٣

من فرائده في وصف الربيع، وقد جعله فاتحتها. وواضح أنه في المطلع يمثل الدهر في تلك الحواشي الزاهية المشرقة التي يتمايل فيها الثرى وكأنه عروس تتثنى في حليها وتتكَسَّر في زينتها. ويستمر فيتصور الربيع مجمعًا للشتاء والصيف؛ فمن هذين الضدين اللذين يتمثلان في طقسه وفيما أنبته الشتاء وأخرجه من نوره يتألف منظره البهيج، وما يزال حتى يقول:

وندًى إذا ادَّهنَتْ به لِمَمُ الثَّرى ... خلت السَّحاب أتاه وهو مُغَدَّرُ٤


١ القاطب: مازج الخمر بالماء.
٢ الغوارب: الأسنمة، والسرى: السير ليلًا.
٣ تمرمر: تتمايل لينًا ونعمة، يتكسر: يتثنى.
٤ اللمم: جمع لمة وهي الشعر المجاور شحمة الأذن. مغدر: ذو غدائر.

<<  <   >  >>